الفكر العربي ومسألة الهوية في عصر العولمة الثقافيةمقدمة
لم تعد رداءة الحالة العربية اليوم موضوعا للمحاجة ،فالمواطن العادي والمثقف والنخبة السياسية - مَن ينتمي منها للسلطة أو للمعارضة-وبكل مشاربهم السياسية وتوجهاتهم العقائدية ...الجميع يقر بالحالة المأساوية التي نعيشها كأمة عربية كانت ذات يوم صاحبة حضارة وكان لها صولات وجولات وإبداعات فكرية وإنسانية شهد بها العالم.وعندما نتحدث عن أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية مأزومة فهذه أوضاع إن كان جزء منها نتاج ظروف ومؤثرات خارجية –هيمنة واستعمار وتآمر-إلا أن الجزء الأكبر هو نتاج ثقافة وأنماط تفكير النخبة ،فكل أمة تصنع واقعها وتاريخها ،وسيكون من السذاجة إحالة كل شيء لمقولات نظرية المؤامرة مع ان المؤامرة هي جزء من السياسة وبالتالي لا يمكن استبعادها كليا .
وحيث أن الفكر انعكاس للواقع وهناك علاقة جدلية ما بين الفكر والواقع فان الفكر العربي مأزوم بالواقع والواقع مأزوم بالفكر ،ولا يمكن تفهم إشكالات الواقع و إيجاد مخارج وحلول لهذه الإشكالات، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، إلا بالفكر العلمي والموضوعي ،فكل هذه المجالات هي فكر ونظر قبل أن تكون سلوكا ومؤسسات وثقافة،ومن ها نلاحظ التلازم في التدهور، تدهور الفكر وتدهور الواقع .
في الوقت الذي كان فيه المفكرون العرب منشغلين بالإشكالات التقليدية وهي نفس الإشكالات التي طرحها مفكرو عصر النهضة كالتنمية والحداثة والوحدة العربية والديمقراطية الخ، دهمتهم العولمة وشكلت تحديا غير مسبوق ،وإن كانت العولمة شكلت تحديا لكل المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية ،إلا أن التحدي الثقافي كان الأكثر إثارة للجدل وخصوصا إنه مس الهوية والانتماء أو يمكن القول إنه أعاد طرح مسألة الهوية من منظور مغاير.ما قبل العولمة كان النقاش حول مسألة الهوية يدور حول الاشتباك ما بين الهوية الوطنية أو القطرية والهوية القومية والهوية الإسلامية، وإن كان هذا الاشتباك قد اخذ في بعض الأقطار وفي بعض الأوقات طابع التعارض والتصادم فانه في أحايين أخرى أقتصر على تحديد الأولويات دون نفي إحداها للأخريات،أما في زمن العولمة الثقافية فقد أصبحت كل هذه الهويات معرضة للتهديد من جانب مما يوصف بالحرب الحضارية ومن جانب آخر من ظاهرة اثننة العالم وإن كانت هذه الأثننة تبدو كحالة متناقضة مع مفهوم العولمة إلا إنها نتاج لها سواء كان مقصودا أم غير مقصود ،ويعتبر العالم العربي مجالا ملموسا لمفاعيل هذه الأثننة سواء في السودان او العراق او الجزائر والمغرب او حتى مصر .
موضوع هذا البحث هو مقاربة الفكر العربي حول الهوية والتحديات المطروحة في هذا السياق ما قبل عصر العولمة وما بعده مع الأخذ بعين الاعتبار تداخل المرحلتين نظرا لصعوبة التأريخ الدقيق لبدء عصر العولمة . وسنقارب الموضوع من خلال الفصول التالية :-
الفصل الأول : الفكر العربي وإشكالية الثورة والديمقراطية
الفصل الثاني :الفكر العربي وتحدي العولمة
الفصل الثالث : مسألة الهوية في ظل العولمة
الفصل الأول
الفكر العربي وإشكالية الثورة والديمقراطية
بالرغم من عراقة الحضارة العربية والإسلامية إذا ما قارناها بحضارات شعوب أخرى،إلا أن عرب اليوم يعيشون حالة من التشرد والتشتت الفكري وعدم التوازن الحضاري أو حالة تبعية حضارية ،وما هو اخطر من ذلك انسداد أفق المستقبل القريب من حيث تبلور مشروع فكري وحضاري عربي يعيد الاعتبار للعرب كأمة عريقة . هذه الحالة العربية ناتجة عن تداخل الماضي مع الحاضر فيما يسمى بإشكال الأصالة والمعاصرة وهو إشكال يعود ضمن أسباب أخرى لكون ماضي العرب أفضل من حاضرهم وهذا الماضي نهض على أساس ديني وضمن شروط ومحددات يصعب إعادة إنتاجها في عالم اليوم ،و بدون مبالغة يمكن القول بأن شعوبنا العربية هي الوحيدة في العالم التي لم تتح لها فرصة للتفكير بحرية لتضع لنفسها النظام السياسي والاقتصادي الذي يناسبها ،فهي أمة ممزقة بين تجاذبات متعددة : تجاذب الماضي والحاضر بحيث بات صوت الأموات فيها أعلى من صوت الأحياء،تجاذب الدين والدنيا أو المقدس والدنيوي ،تجاذب القطري والقومي بل وصل الأمر لتجاذب القبلي والطائفي مع الوطني ،الخ .
فلو فتحنا كتاب (فكرنا ) السياسي لوجدناه مكون من ثلاثة أجزاء وكل جزء منقسم لأجزاء، جزء إسلامي أو ينسب إلى الإسلام :الخلافة والإمامة والحكم بما أنزل الله وسيرة السلف الصالح دون اتفاق حتى داخل الجماعات والنظم الإسلامية على أسس أو قواعد لنظام الحكم في الإسلام ، وثلث أخر مستمد من الغرب وهو خليط من الفكر الليبرالي والرأسمالي والقومي والإقطاعي والديمقراطي المشوه، فكل ما عرفه الغرب من أفكار له صورة مشوهة في فكرنا ، وثلث أخر مستمد من المنظومة الاشتراكية : اشتراكي وشيوعي وثوري وفوضوي وعدمي والحادي وما تنزل من سلطان . لا شيء في الفكر العربي الراهن يعبر عن كينونتنا وهويتنا كأمة واحدة، انه فكر يعبر عن حالة عجز عن إبداع شيء خاص بنا حتى بتنا مجتمعات بدون هوية .
ولأن الدول العربية لمرحلة ما بعد الاستقلال ولِدت مأزومة في شرعيتها وجاءت خارج التطور الطبيعي للمجتمعات ،فلا هي دولة/ أمة ولا هي وريثة لدولة الخلافة ولا هي دولة عقد اجتماعي ولا هي دولة طبقة مهيمنة بالمفهوم الماركسي ،بل أقحمت إقحاما لاعتبارات ومصالح استعمارية ،لكل ذلك كانت المنطقة العربية مجالا خصبا لتوالد الأفكار والنظريات لتأطير مجتمعات لا تجربة سابقة لها بحكم نفسها بنفسها ، وحيث أن عديدا من الدول العربية عاشت مرحلة حركة التحرر ضد الاستعمار ومن يواليه من قوى داخلية، بما هيمن على هذه الحركات من فكر ثوري فقد اتسم الفكر السياسي في هذه المرحلة بنزعة ثورية هي خليط من الفكر القومي والفكر الاشتراكي والفكر الديني دون وضوح الخطوط الفاصلة لكل منهم ،فالمرحلة الناصرية كانت بدايتها ذات صلة بالإخوان المسلمين ثم قطعت معهم لصالح الفكر القومي ثم تحولت أو مزجت الفكر القومي بالفكر الاشتراكي،والأنظمة والحركات التي عرفتها سوريا والعراق واليمن والسودان الخ كانت خليط ما بين الفكر القومي والفكر الاشتراكي مع توظيف للدين بشكل أو آخر.وحتى الأنظمة الملكية كالمغرب والأردن شهدت حركات سياسية قومية واشتراكية وإسلامية ،إلا أنه بالنسبة لهذه الأنظمة فقد وقفت موقفا معاديا لكل هذه الحركات الفكرية التي بدورها وضعت نصب عينيها إسقاط هذه النظم بذريعة أنها نقيض تحرر الشعوب وحريتها .
هيمنت أفكار الحرية والتحرر والوحدة على فكر الحركات السياسية الحديثة والتي أتسم فكرها بنزعة ثورية وقومية مثالية وكانت فكرة الثورة وإقامة الجمهورية فكرة مستحوذة على عقول الجماهير ،وكان هدف إسقاط أنظمة الحكم الملكية له السبق على بقية الأهداف ،وهكذا صُنفت الأنظمة الملكية باعتبارها عقبة في طريق التحرر والتقدم ولم يراهن أصحاب الفكر الثوري على أية إمكانية لنجاح الأنظمة الملكية في مجالات التقدم والتنمية وحقوق الإنسان بالرغم من أن هذه الأنظمة كانت تعرف حالة دستورية وبرلمانية متميزة ، و أولى الثوريون كل اهتمامهم للثورة والأنظمة الجمهورية مراهنين على أن النهضة القومية العربية والتقدم والتحرر لا ولن يتحققوا إلا على يد الأنظمة الثورية، على يد زعماء ثوريين واشتراكيين وقوميين، وكان هاجس قلب الأنظمة مسيطرا وسابقا على هاجس تأسيس الديمقراطية، وسادت هذه الأفكار لسنوات طوال وانتظرت الجماهير العربية أن تتحقق آمالها على يد الأنظمة الجمهورية والأنظمة الثورية، ولم تفكر يوما، أو تهتم بما يجري في أنظمة أخرى ليست جمهورية، ولا ثورية، أو بطريق آخر للتقدم والتحرر غير طريق الثورة والفكر الثوري والاشتراكي.
كانت مشكلة أو خطيئة الفكر السياسي العربي المتطلع نحو التقدم والحرية أنه وضع في حالة تعارض، التحرر والتقدم والتنمية من جهة والديمقراطية من جهة أخرى، أو بشكل آخر، الثورة من جانب والديمقراطية من جانب آخر، فطريق الثورة يتناقض في نظره مع استحقاقات الديمقراطية أو في أفضل الحالات إن الديمقراطية عملية مؤجلة إلى ما بعد قلب أنظمة الحكم وتحقيق التحرر السياسي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية، حتى أن غالبية الأنظمة الثورية العربية عملت مباشرة بعد الثورة على حل الأحزاب السياسية التي كانت متواجدة وعطلت المسار الديمقراطي بحيث تحول القادة الثوريون إلى أسياد جدد بأيديولوجيات جديدة، وتحول الشعب إلى رعايا جدد خاضعين لهؤلاء الأسياد، « وأصبحت الثورة والديمقراطية تناصبان العداء بدلا من أن تمهد إحداها الطريق أمام الأخرى».
هذا التفكير الثوري ذو النزعة الاشتراكية والقومية أقصى من اهتماماته أية إمكانية لتحقيق مطالب الجماهير ومصالح الأمة عن أي طريق غير طريق الثورة والانقلابات العسكرية، وبالتالي لم يكن وارد أن ما لا يتحقق عن طريق الثورة قد يتحقق عن طريق الديمقراطية وبالفكر الإصلاحي، ولم يدرك هؤلاء أنه إن كانت هناك أنظمة ملكية عربية سيئة فهي ليست سيئة لأن نظامها ملكي بل لسوء شخص الملك وحاشيته وسياسته - كما أن الأنظمة الجمهورية ليس بالضرورة جيدة-، فالملكية لم تكن عائقا أمام تقدم وتحضر المملكة البريطانية أو اليابان أو العديد من الدول الأوروبية، وإن الملكية قد تصبح ضرورة لا بد منها في بعض المراحل التاريخية ليلعب الملك دور الحكم ودور المرجعية التي تسمو على التعددية العرقية او الطائفية المتناحرة، فالملك رمز وحدة الأمة وضامن استقرارها عندما تغيب المؤسسات وتغيب دولة القانون وعندما تسود الانتماءات القبلية الطائفية بدل الانتماء للدول وعندما تكون الأمة مهددة بالانهيار وبالحروب الأهلية، أو تكون الدولة حديثة النشأة والتأسيس وتحتاج إلى فترة استقرار حتى تبنى مؤسسات الدولة وينضج المجتمع المدني المؤهل للحكم ويتم التخلص من مخلفات الاستعمار، ولكن على شرط أن يكون الحاكم وطنيا ودستوريا مهيئا شروط بناء الديمقراطية.
لا شك أن فئة من المفكرين والمثقفين العرب كانوا واعين لمخاطر ثورات لا تملك من الثورة إلا اسمها ومحذرين من استبدادية جديدة مغلفة بأيديولوجيات براقة واستقطابية، ولكنهم لم يبلوروا مشروعا فكريا موحدا، حيث كانوا منتمين إلى مدارس ومشارب متعددة من جانب، ومن جانب آخر كانت حالة الترعس الجماهيري وبريق شعارات الثورة والاشتراكية مستحوذة على أذهان الجماهير وتصم آذانها عن أي طروحات مشككة بالانقلابيين وبدعاة الثورية، ومن جهة أخرى إن البدائل القائمة أي الأنظمة العربية الملكية أو التقليدية لم تكن في غالبيتها تشجع على الدفاع عنها، حيث كانت أنظمة رجعية بالفعل ومتخلفة ومتحالفة مع الاستعمار تُجَّهل جماهيرها وتعادي حقوق الإنسان ولكن الأهم من ذلك أن الديمقراطية وثقافتها كانت مغيبة أو ذات حضور ضعيف في الثقافة السياسية العربية .
لا يعني ما سبق الكفر بالثورة والثوار أو تحميل الفكر العربي الثوري والقومي وزر مرحلة بكاملها ، ذلك أن ما لا شك وجود أمور إيجابية لأنظمة الثورة والتقدمية ، ولكن الخلل أن دعاة الثورة والثورية تعاملوا مع الثورة وكأنها حالة متواصلة غير مميزين ما بين الثورة كأداة ونهج لهدم أنظمة فاسدة ومرحلة البناء التي تحتاج إلى فكر وممارسات ليست بالضرورة هي فكر وممارسات مرحلة التهيئة للثورة والقيام بها .إن الثورة مرحلة حيث لا يمكن أن يستمر شعب في حالة ثورة مستمرة ،مرحلة تتميز بدرجة عالية من العنف واستنفاذ الجهد الشعبي إنها وضع استثنائي لتحقيق غرض هو بالأساس إسقاط أو تغيير وضع قائم لا يرضى عنه الشعب ،هدفها الأساسي توظيف حالة التذمر الشعبي وحالة الكراهية والفقر والكبت التي تعاني منها الجماهير لتغيير وتدمير سبب شقاء الشعب أو من يعتبرهم قادة الثورة السبب ،فهي تتعامل مع عواطف الجماهير أكثر مما تتعامل مع عقولهم ،ولكن لا يمكن للشعب أن يستمر في حالة ثورة مستمرة ،وعليه تمر الثورة بمرحلتين ،مرحلة الهدم ومرحلة البناء ،مرحلة الهدم سهلة وكل ثوراتنا العربية نجحت في عملية الهدم لأنها عملية سهلة قد تقتصر على انقلاب عسكري أو اغتيال الملك أو الرئيس ثم يقال لقد نجحت الثورة -غالبية ما نسميه ثورة في مجتمعاتنا العربية هي في الحقيقة انقلابات أو مؤامرات عسكرية وليست بثورة لان الشعب لا يعلم بالثورة إلا بعد حدوث الانقلاب وتغيير نظام الحكم - إن شعب جائع فقير مهان متخلف لا يحتاج إلى كثير جهد حتى يُقذف به في آتون الثورة إنه في حالة ثورة مستمرة حتى ضد نفسه ،وكم هم واهمون ومدعون أولئك الذين ينسبون إلى أنفسهم صفات الذكاء والعبقرية والقيادة الحكيمة لأنهم استطاعوا ان يقودوا شعبا إلى الثورة ،إن من يدعون لأنفسهم فضيلة قيادة ثورة ما هم إلا الأكثر ديماغوجية والأكثر قدرة على التلاعب بعواطف جموع جاهلة فقيرة مقهورة ،ولكن ماذا بعد الفوضى والانقلاب المسمى ثورة ؟ ماذا بعد الهدم ؟ من يبني الجديد ؟.
نجحت الثورة في عمليتها الأولى مرحلة الهدم وقد لا تكلف العملية أكثر من استيلاء على الإذاعة والتلفزيون أو رصاصة في رأس الحاكم الفاسد -الرجعي واليميني وعميل الاستعمار وسبب هلاك الأمة ..الخ- ثم خطاب حماسي يسمى البيان الأول ، حتى يقال لقد نجحت الثورة ،وماذا بعد ؟ كان البَعد بالنسبة لكثير من الأنظمة والحركات الثورية العربية أنهم قضوا على الأنظمة القديمة ثم جلسوا على أنقاضها ، واخذوا يرددون شعارات الثورة وظنوا أن شعارات الثورة ستغني الجماهير عن فقرها وجوعها ،اعتقدوا أن كل مشاكل الجماهير قد حلت بمجرد إسقاط النظام السابق ووصول قادة (الثورة) الى سدة الحكم ،ولكن ماذا بالنسبة للاقتصاد والمديونية والتعليم والتكنولوجيا ،هل يتم تطوير وتحديث المجتمع بشعارات الثورة ،هل يقضى على الفقر والجهل والمديونية ببركات الثوار ودعواتهم ؟هل يقضى على إسرائيل وأمريكا بمجرد تسيير المظاهرات المنددة بالصهيونية والامبريالية ؟.
إن عملية الهدم سهلة وقد يقوم بها ضابط مغمور في الجيش ،ولكن عملية البناء هي الأساس ،لأنها تحتاج الى رجال مختلفين وعقلية مختلفة وأساليب عمل مختلفة.
تجلت مسألة أو إشكالية الهوية خلال المرحلة السابقة في التنازع ما بين الهوية القومية والهوية الأممية والهوية الوطنية ،صحيح أن حركات دينية كجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير كانت لهم رؤية مغايرة للهوية ،إلا أن حضورهم السياسي كان محدودا،وحتى بالنسبة للهوية الأممية فقد كانت غير واضحة المعالم وفي كثير من الحالات كانت أوهاما أو حلما عند بعض الناشطين في الأحزاب الشيوعية ،وللمفارقة فان كثير من الشيوعيين العرب حاولوا إيجاد حالة من المصالحة ما بين الشيوعية والدين بل كان بعضهم يوظف آيات دينية في خطبهم ويبدأ بالبسملة .وفي جميع الحالات كان هم مواجهة الاستعمار المباشر وغير المباشر وقلب أنظمة الحكم يطغى على الانشغال بمسالة الهوية ،وغالبا كان الفكر والمفكرون المعبرون عن الهوية الوطنية القطرية يصنفون كأعداء للوحدة والتحرر وأحيانا كعملاء للاستعمار .
وللمفارقة أنه في الوقت الذي كانت ترتفع فيه شعارات الوحدة العربية والهوية القومية كانت الأنظمة الثورية والقومية ترسخ الإقليمية من حيث تدري أو لا تدري وذلك من خلال مركزية الدولة القطرية ونظام الحزب الواحد وتضخيم الأجهزة الأمنية وتشديد الرقابة على الحدود ومنع حرية الفكر الخ.بل وما هو أكثر خطورة أن هذه الأنظمة والحركات أحيت وعززت الهويات الطائفية والعرقية أي هويات ما قبل الدولة وما قبل الوطنية بحيث بات الانشغال والخوف على الوحدة الوطنية أهم وسابق على الانشغال بالوحدة القومية والهوية القومية .
كثيرة هي أسباب تعثر الفكر السياسي العربي في حل إشكالات الأمة سواء في مسالة الهوية والانتماء أو مسألة التنمية أو في مسالة مواجهة التحديات الخارجية ،إلا أننا نعتقد بان أهم هذه الأسباب هو غياب الديمقراطية سواء عند الحركات و الأحزاب القومية والثورية أو عند الأنظمة أو في الثقافة الشعبية ،ويمكن إرجاع الأسباب لغياب الديمقراطية عن الفكر السياسي العربي فيما يلي :
الأول : غياب نموذج عربي أو إسلامي للحكم الديمقراطي، يمكن الرجوع إليه واستلهامه وهذا الغياب يمس الحاضر كما يمس الماضي - بالرغم من محاولات البعض مماهاة الشورى الإسلامية بالديمقراطية.وكانت الصورة المثالية للحكم في الموروث العربي الإسلامي هي (المستبد العادل ) وبالرغم من وجود تجارب برلمانية ودستورية في بعض الدول قبل الاستقلال.
ثانيا : غياب مفكرين ديمقراطيين متنورين، في مركز القرار السياسي أو في مركز التأثير على أصحاب القرار، قادرين على بلورة رؤية أو مشروع يربط ما بين عالمية الفكرة الديمقراطية والخصوصية الاجتماعية الثقافية العربية الإسلامية، حتى أن إسهامات مفكري النهضة العربية أوائل القرن لم تُستثمر بشكل جدي ولم يُبن عليها أو تُطور، وهي أفكار كانت من الخصب والغنى مما كان يؤهلها آنذاك لتكون نواة مشروع حضاري ديمقراطي عربي، إلا أنها ووجهت بمعارضة من تيارات شتى: قومية وعلمانية ودينية وثورية.
ثالثا : غياب ثقافة الديمقراطية، فالديمقراطية ليست مؤسسات ولكنها ثقافة أيضا، ما يحدث في العالم العربي هو أن خلق المؤسسات الديمقراطية سبق نشر الفكر الديمقراطي - عكس ما حدث في الغرب حيث مهد فكر عصري النهضة والأنوار لتأسيس النظم الديمقراطية - ومن هنا نجد تعارضا بين الثقافة الجماهيرية السائدة التي هي إما أصولية دينية أو ثورية انقلابية أو ديكتاتورية من جهة والثقافة الديمقراطية من جهة أخرى.
رابعا : عملية الاستقطاب الدولي سياسيا وأيديولوجيا أظهرت وكأن الديمقراطية هي خاصية غربية امبريالية، وبالتالي نُظر إليها كجزء من الثقافة الغربية الاستعمارية وأن مقولاتها والمطالبة بتطبيق هذه المقاولات يدخل في باب الغزو الثقافي الغربي.
خامسا :ارتباطا بسابقه، كانت الديمقراطية –وما تزال- وليدة فكر النخبة البرجوازية أو المثقفة فهي جاءت من فوق من القلة الغنية أو المثقفة تثقيفا غربيا ،ونظر للعلاقة غير الطيبة ما بين الجماهير الشعبية والنخبة فقد تعاملت الجماهير بحذر في بداية الأمر مع الديمقراطية ودعاتها.
سادسا: تعليق كل شيء على مشجب فلسطين والخطر الصهيوني، بحيث كانت الأنظمة ومعها الأحزاب السياسية، تعتبر أن الخطر الآني والمباشر ليس الفقر أو انتهاك حقوق الإنسان ولا الأمية ولا غياب الديمقراطية، ولكنه الخطر الصهيوني، وان المرحلة تستوجب توحيد كل الجهود من أجل الوحدة وتحرير فلسطين. وهكذا باسم فلسطين صودرت الحريات، وتعاظمت المعتقلات، وطُورد الأحرار، وجُهلت الجماهير وازداد الفقراء فقرا وازداد الأغنياء غنى، وكانت النتيجة لا فلسطين حُررت ولا الديمقراطية أُنجزت.
سابعا :غياب طبقة أو نخبة مثقفة ديمقراطية لتكون بمثابة القاطرة التي تقود عملية التحول الديمقراطي ،فالطبقة المثقفة العربية كان جزء منها يدور في فلك السلطة والسلطان والمستبعدون من نعيم السلطة أو المبعدين أنفسهم عنها كانت ثقافتهم غير ديمقراطية ،إما ثورية انقلابية أو دينية جهادية ،وفي كلا الحالتين كانت تريد التغيير بغير الأسلوب الديمقراطي .
ثامنا :وخضعت مسالة الهوية لتجاذبات متعارضة وخصوصا ما بين الهوية القومية والهوية الإسلامية والهوية الأممية والهوية الوطنية ،ولم تجر محاولات جادة للتوفيق بين هذه الهويات من خلال تحديد الأولويات بحيث يتم الانتقال من دائرة لأخرى دون تصادم .
تاسعا:أنتجت الأنظمة الثورية والقومية نقيض خطابها وأيديولوجيتها ،ففيما كانت تتحدث عن الوحدة العربية والأمة العربية ،كان منطق وواقع سلطة هذه الأنظمة يرسخ إقليمية مقيتة بل قبلية وطائفية ،وتحول مفهوم الوطن والوطنية إلى حاجز يحد من التوجهات الوحدوية والقومية .
عاشرا :كردة فعل على الخطر المتوهم الذي تشكله أنظمة الثورة، انغلقت الأنظمة التقليدية على نفسها و أنتجت هوية خاصة موظفة الدين والتراث والأصالة،وانقسمت الأنظمة العربية بالتالي ما بين أنظمة ذات شرعية دينية وأنظمة ذات شرعية ثورية ،فيما هي في حقيقة الأمر تفتقر لأية من هذه الشرعيات ما دام الشعب مغيبا عن مركز القرار وليس حرا في اختيار من يحكمه .
نخلص مما سبق أن العقل السياسي العربي وطوال سنوات ما بعد الاستقلال وإلى نهاية القرن العشرين لم ينجح في حل بلورة فكر يمكن نعته بحق بأنه فكر عربي ذو سمات محددة ،وبالتالي لم ينجح في المواءمة ما بين مقولاته وبين مجريات الواقع ،وجاءت العولمة وفكرها ليشكل تحديا جديا يضاف لتحدي الديمقراطية والتنمية الذي فشل العرب في مواجهته .
الفصل الثاني
الفكر العربي وتحدي العولمة
1- العولمة تجدد تساؤلات عصر النهضة
كان الانفتاح على حداثة الغرب والذي دشن ما سمي بعصر النهضة العربية بمثابة الصدمة، نظرا لما كشفه من اتساع الهوة ما بين واقع العرب والمسلمين من جهة وما عليه أوروبا من حضارة وتقدم من جهة أخرى. وانشغل مفكرو تلك المرحلة بالسؤال (لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمون ؟) وكيف يمكن اللحاق بالركب ؟.وهو نفس السؤال الذي يشغل (المتعولمين) العرب والمسلمين ذوي النزعة الوطنية منذ العقد الأخير من القرن العشرين.
شكلت تلك المرحلة- نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين- إرهاصات منعطف فكري في العالمين العربي و الإسلامي ،وكانت تبشر ببداية نهضة تحرر شعوب المنطقة من حالة التخلف والركود التي تعيشها ،"في تلك الحقبة لم يعد التحديث يعني إطلاقا الأخذ عن الغرب للانتفاض على الشرق،بل يصبح يعني مواجهة الغرب بحداثة خاصة بالإسلام". إلا أن عوامل داخلية وخارجية لا داع للغوص فيها أعاقت مشروع النهضة العربية، بل أجهضت آنذاك بعض إنجازات الحداثة ، ونعتقد بأن أهم عوامل فشل مشروع فكر النهضة العربية هو فردانية دعوات الإصلاح والتحديث وتشتتهم بين مذاهب ومدارس فكرية متعددة ما بين عروبية وإسلامية ووطنية وبالتالي عدم وجود ناظم مشترك ،سواء على أساس إسلامي أو على أساس قومي،أيضا عدم القدرة على التمييز ما بين الحداثة Modernizationوالتغريب Westernization،فالحداثة لا تلغي الخصوصيات والهويات الوطنية بالضرورة، ولكن التغريب قد يؤدي لذلك،فاليابان اقتحمت عالم الحداثة بقوة دون أن تلغي خصوصياتها الثقافية.
واليوم وبعد قرن من الزمن وكأن التاريخ يعيد نفسه، فنفس القضايا التي شغلت مفكري ذلك العصر: المرأة، الحرية، الإصلاح السياسي، النهضة الاقتصادية، تجديد الخطاب الديني وتحديث التراث الخ، تتكرر اليوم ولكن في ظل فجوة معرفية وحضارية بيننا وبين الغرب أكثر اتساعا، وفي ظل أوضاع سياسية وثقافية أكثر تشرذما وإحباطا وفي ظل تعدد للمواقف الفكرية للمثقفين من العولمة. تساؤلات ما قبل قرن من الزمن كانت تدور حول الحداثة أهي التغريب المهدد لهويتنا وثقافتنا؟ وتساؤلات اليوم تدور حول العولمة أهي الأمركة المهددة لثقافتنا وحضارتنا؟. فهل سنتعلم من التاريخ ولا نكرر أخطاء الماضي؟ أو سنفكر بطريقة مختلفة مستمدة من منطق العولمة ذاته، مؤداها أنه لا مكان في عصر العولمة للكيانات الصغيرة ،وهذا يتطلب عولمة العالم العربي أولا ثم الدخول في عصر العولمة الكونية .
من هذا المنطلق يصعب مقاربة ظاهرة العولمة وانعكاساتها على العالم العربي دون ربط الموضوع بالثقافة، سواء بمفهومها الضيق الذي يتماهى مع مفهوم الهوية، أو بمفهومها الشامل الذي يتطابق مع مفهوم الحضارة – البعدين المادي والمعنوي للثقافة- والذي اخذ اليوم طابع الصراع الحضاري. و هذا الربط له مسوغاته نظرا لتزامن تدافع تنظيرات العولمة ومأسستها اقتصاديا وثقافيا وسياسيا وإعلاميا مع أزمة عميقة تشهدها مجتمعاتنا، أزمة شرعية مستعصية ،أزمة النظم السياسية و الاقتصادية والثقافة ،وأزمة التضامن العربي ولا نقول الوحدة العربية، وفي ظل مد أصولي لم تعرفه المنطقة سابقا. ومجتمع مأزوم بهذه الدرجة ينتابه خوف من كل ما هو جديد ووافد من الخارج، الخوف والحذر من كل ما هو وافد يؤدي للانغلاق على الذات والهوية والحنين للماضي قبل أي تفكير وتمحيص عقلاني لهذا الوافد الجديد، ولكنها لأسف ذات مأزومة وهوية مأزومة،وبالتالي ينطبق المثل القائل (كالهارب من الرمضاء إلى النار).
لا شك أن لهذا الخوف ما يبرره نظرا لتزامن الحديث عن العولمة مع عصر يشهد مؤشرات نهاية كثير من الأفكار والمنظومات السياسية والاقتصادية والفكرية التي شغلت العالم خلال القرن العشرين وما سبقه، بل يمكن القول إن العولمة هي تكثيف وتجميع وتسريع لنهايات وما بعديات، ما بعد الاشتراكية والشيوعية وما بعد الرأسمالية والليبرالية بمفاهيمهم التقليدية وما بعد السيادة الوطنية وما بعد الاستقلال وما بعد الشرعية الدولية وما بعد الثورة الصناعية وما بعد الثقافة المكتوبة وما بعد العلمانية،الخ. العولمة هي عصر "يلهث فيه قادمه يكاد يلحق بسابقه ،وتتهاوى فيه النظم والأفكار على مرأى من بدايتها،وتتقادم فيه الأشياء وهي في أوج جدتها،عصر تتآلف فيه الأشياء مع أضدادها" .هذه النهايات إن كانت لا تثير كثير قلق عند دول الشمال المتقدمة، فالأمر مغاير عند المجتمعات العربية والإسلامية حيث صوت الأموات فيها أقوى من صوت الأحياء، والحنين للماضي يطغى على التطلع للمستقبل، والأهم من ذلك يصعب الحديث عن نهايات فيما المجتمعات العربية لم تستكمل بناء الدولة ولم تنجز هدف الاستقلال، لا السياسي ولا الاقتصادي. ولكن ... الخوف ليس مبررا للهرب بل يجب أن يكون دافعا للتحدي والمواجهة.
في رأينا إن العولمة ليست سيئة بالمطلق ولا جيدة بالمطلق، كما أنها ليست خيارا مطروحا على الدول والمجتمعات يمكنها الأخذ بها أو تجاهلها، بل هي نتاج لتحولات متدرجة عرفها العالم خلال عقود طويلة بل خلال قرون، تحولات هي في جانب منها بمثابة تطور طبيعي ومنطقي لترتيبات وأوضاع سابقة، وفي جانب أخر مخطط لها بحيث تأخذ مسارا يخدم قوى محددة ذات مصالح كبرى، ومن جانب ثالث تحولات مفروضة بفعل تفاعلات داخلية ودولية، وبالتالي نعتبر العولمة تحد يجب مواجهته للاستفادة من ايجابياتها أو التقليل من مخاطرها.
إذا اتفقنا على هذه المقاربة المفاهيمية للعولمة ،فأين موقعنا كعرب ومسلمين منها ؟وما هي تداعياتها على مجتمعاتنا ونظمنا الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ؟ وهل هي فرصة علينا اهتبالها ؟أم خطر علينا اتقاء شره؟ أم هي تحد يمكننا إن أحسنا التصرف حيالها أن نتقي شرها ونستفيد من إيجابياتها؟. ولكن وقبل الإجابة على هذه التساؤلات ،لا بد من الإشارة إلى أن مجتمعات أخرى طُرحت عليها هذه التساؤلات ،إلا أن المنعة الاقتصادية والثقافية لهذه المجتمعات جعل وقّع العولمة عليها أقل حدة ،بل جنت من ايجابيات العولمة أكثر مما عانت من سلبياتها ،هذا هو حال ما يسمى بالتنينات الأسيوية ودول المعسكر الاشتراكي سابقا ،بل إن فرنسا الدولة الغربية الرأسمالية كان لديها في البداية تخوفات من البعد الثقافي للعولمة ،حيث خشيت على لغتها وثقافتها من اللغة الانجليزية والثقافة الأمريكية ،وعليه طالبت فرنسا على لسان رئيسها جاك شيراك بضرورة تقنين العولمة.
لا غرو بأن العولمة مثل الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية واقتصاد السوق والاشتراكية و المجتمع المدني الخ، من المصطلحات التي أصبحت تتردد كل يوم في خطابنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتشكل حيزا كبيرا من هذا الخطاب ،ولكن دون أن تكون متأصلة لا في ثقافتنا ولا في وعينا السياسي ،مصطلحات أقحمت إقحاما وجاءت مستوردة مثلها مثل ما استوردنا من أيديولوجيات وأفكار وسلع وعلوم وتكنولوجيا، وتزايد مثل هذه المصطلحات في خطابنا السياسي والاقتصادي ،وما يستتبع ذلك من محاولة مأسسة لهذه المصطلحات ،إنما يعكس أزمة عميقة ،وهي أزمة الإبداع في مختلف المجالات ،العجز عن الإبداع والإسهام في حضارة العصر هو الذي يجعل مجتمعاتنا غير محصنة في مواجهة كل ما هو جديد، وهو عجز يساعد على إيجاد المبررات الأخلاقية والعملية لثقافة التقليد والتبعية.
العيب ليس بالضرورة في العولمة وغيرها من المصطلحات وما تحيل إليه من دلالات وما تنتمي إليه من منظومات فكرية أو نظم سياسية واقتصادية ،بل العيب في من يستوردها ويتعامل معها، إما كمسلمات يتم التعامل معها وتطبيقها دون محاولة لإعمال العقل لتبيئتها لتصبح مناسبة للخصوصيات التاريخية والموضوعية بما فيها الثقافية للمجتمع المستورِد لها، أو كخطر و تهديد يجب مقاومته والوقوف منه موقف المعارض والمحارب دون تفكير لا لشيء إلا لكونها مستوردة من الآخر ، والأخر في نظر هذا التوجه عدو لا يجوز الأخذ منه أو التشبه به !.
ونعتقد أن التعامل العقلاني والموضوعي مع موضوع العولمة وغيرها من النظم الفكرية والاقتصادية المستورة يتطلب عقلية متفتحة وموضوعية بمعنى الكلمة ، ونقطة المنطلق في التعامل مع الموضوع هو الإقرار بأننا كمجتمعات عربية وإسلامية توقفنا عن المساهمة الحضارية منذ القرن الخامس عشر( سواء كانت الأسباب داخلية كخضوعنا لنظم استبدادية متسلطة أو خارجية كالاستعمار )،وان غالبية مشتملات الحضارة الحديثة هي نتاج الآخر ،العالم الغربي والمسيحي ،والقول بأننا كنا أصحاب حضارة أو ساهمنا في وضع أسس الحضارة الإنسانية لا يفيد في شيء ،ما دمنا اليوم نعتمد في معيشتنا على منتجات الآخر الثقافية والاقتصادية والعلمية ،وهذا القول لا يعني التقليل من شان السلف الصالح ، فهو سلف أولا وكان صالحا آنذاك ثانيا . المهم ما هي مساهمتنا في حضارة اليوم ؟.فإذا اعترفنا أن مساهمتنا المباشرة معدومة أو محدودة ، وإذا اعترفنا بأننا لا نستطيع أن نستغني عن معارف وعلوم ونتاج الآخر قائد قاطرة العولمة،لان كل حياتنا تقريبا معتمدة على منتجات الحضارة الغربية ،بل نعيش عالة عليها، لغياب مساهمتنا فيها أو لخلل أنظمتنا السياسية والثقافية أو للسببين معا ، إذن التقوقع على الذات والوقوف موقف الرافض لكل ما هو مستورد وجديد هو موقف ليس فقط غير عقلاني بل موقف غير أخلاقي.
لا يعني ما سبق بأن علينا التسليم باستحقاقات وشروط العولمة وكل ما هو وافد دون تمحيص، من منطلق الزعم بعالمية الفكر وعالمية القيم والنظم السياسية والاقتصادية وخصوصا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتأزم نظمنا السياسية وتبلد نظمنا الفكرية والثقافية ، بل المطلوب التوفيق بين ما هو وافد من جانب وواقع مجتمعاتنا من جانب أخر دون إضفاء القدسية على أي من الطرفين .فالعولمة كمنظومات اقتصادية (اقتصاد السوق) وكمنظومة ثقافية (قيم وأنماط سلوك ولغة تخاطب) وكمنظومة سياسية (خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان) ، تحتاج إلى تبيئة لأنه من حيث المبدأ ومما هو علمي أن أية نظرية أو منظومة سياسية أو اقتصادية ،لا تأخذ مصداقيتها وصلاحيتها إلا لأنها وليد بيئة اجتماعية وثقافية محددة و معبرة عنها ،و نتاج لشروط تاريخية وموضوعية ،وتغير هذه الشروط يُفقد الفكر وما يرتبط به من ممارسة علميته وبالتالي عالميته ،لأنه يتحول إلى فكر منفصل عن الواقع . ولكن بالمقابل هل نظمنا المعاشة التي لم تسعفنا على أن نكون خير امة أخرجت للناس ،ولا أن تضمن لشعوبنا حياة كريمة ،قادرة على الاستجابة لتحديات العصر وعلى رأسها العولمة؟.
انطلاقا من حقيقة الأوضاع العربية المتردية ومحدودية القدرة أو الإرادة – لأن القدرة مرتبطة بالإرادة، ولا قيمة لقدرة دون إرادة- على أن نكون فاعلين أو مؤثرين في التحولات الدولية المعاصرة ،فان خياراتنا في مواجهة العولمة تبقى محدودة، والأسلوب الأمثل في رأينا في التعامل مع العولمة ليس النظر إليها كخطر أو شر داهم ولا كفرصة سانحة علينا الارتماء بأحضانها دون تفكير، بل كتحد، تحد اقتصادي وتحد ثقافي وتحد سياسي، والتحدي يستوجب المواجهة لا الهروب ،استنهاض الهمم لا التواكل، وهذا يتطلب وضع الاستراتيجيات المناسبة لمواجهة هذا التحدي، والسؤال المركزي الذي تطرحه العولمة في هذا السياق كما يقول برهان غليون "ما هي الإستراتيجية المناسبة من وجهة نظر مجتمع صناعي أو متأخر أو مهمش للاستفادة من الثورة التقنية ودرء مخاطر العولمة الناتجة عنها؟" . تحدي العولمة يحتم وضع استراتيجية لن تكون ذا قيمة إلا إذا وضعت على أساس قومي عربي ،إي خلق )عولمة عربية) منها ننطلق لمواجهة العولمة الكونية .
2) الثقافة العربية في مواجهة ثقافة العولمة
تملك البعض وهم بأن العولمة تعني إزالة كل الحدود وأشكال التمايز بين الشعوب وهذا ما تم استنتاجه مبكرا في مقال لفرانسيس فوكوياما (F.FUKUYAMA) تحت عنوان "نهاية التاريخ" 1989 ، حيث خلص في بحثه إلى أن الليبرالية السياسية والاقتصادية التي انتصرت على كل منافسيها عبر التاريخ هي المؤهلة لسيادة العالم دون منازع. إلا أنه أربعة سنوات بعد ذلك، وفي صيف 1993، صدر مقال أثار ضجة كبيرة تحت عنوان: "صراع الحضارات" لصامويل هنتنغتون (S.HINTINGTON) منطلقا من الفرضية الآتية: "المصدر الأساسي للصراعات في العالم الجديد، لن يكون بالدرجة الأولى إيديولوجيا ولا اقتصاديا، إن الانقسام الكبير بين البشر والمصدر الأساسي للخلاف سوف يكون ثقافي"، وإن الدول سوف تظل القوى المؤثرة في الشؤون الدولية، ولكن الخلافات الرئيسية بين دول العالم سوف تقع بين جماعات حضارية مختلفة، إن صراع الحضارات سيكون المرحلة الأخيرة في تطور الخلافات في العالم. وأهم الصدامات في نظره، سوف تحدث عند خطوط التماس الفاصلة بين الحضارات التالية: الحضارة الغربية، الكونفوشية، اليابانية، الإسلامية، الهندوكية، السلافية، الارتوذوكسية، أمريكا اللاتينية، وضمن هذه الحضارات يبرز التحالف الكونفوشي الإسلامي المحتمل باعتباره تهديدا للحضارة الغربية،وطالب هنتنغتون بضرورة مواجهته منذ الآن عبر شبكة من الاستراتيجيات و التحالفات الدولية.
إلا أن الذي جرى خلال العقدين الأخيرين هو تزامن العولمة كمسعى لإزالة الحدود وتحويل العالم لقرية كونية تتجاوز الصراعات والحدود الثقافية، مع الانفجار الحقيقي للاحتكاكات بين الشعوب والثقافات على المستوى الدولي،حيث تفجرت صراعات جديدة تقوم على أسس ثقافية –عرقية وطائفية-أو ما يمكن تسميته (أثننة العالم) أو التفكيك Fragmentation .ما وراء الشعارات البراقة للعولمة تأكد أن المروجين لها والمتحكمين بآلياتها ينطلقون من اتجاه تبشيري يعبر عن أنوية حضارية غربية مسيحية أو مركزية ثقافية Ethnocentarism يهدف" إلى إذاعة ونشر القيم التي تمثل القاعدة المحورية لهذه الحضارة ،كما يهدف إلى تطوير القيم المقبولة ورفض ونبذ الأشكال الاجتماعية غير المقبولة ،ومن ثم فالتعاون الدولي يتجه نحو قبول تفسير محدد لبعض القيم وذلك عن طريق عزل وإدانة الدول التي تفسر هذه القيم بطرق مختلفة،وقد يؤدي ذلك إلى حرب مقدسة تستهدف فرض مثل هذه القيم باعتبارها قيم عالمية" . وفي ذلك يقول عبد الإله بلقزيز بأن العولمة الثقافية ما هي إلا التعبير المكشوف عن السيطرة الثقافية الغربية التي توظف مكتسبات الثورة المعلوماتية لهذا الغرض وفي نفس السياق يرى سمير أمين بان العولمة طرحت نفسها كايدولوجيا تعبر عن النسق القيمي للغرب على حساب النسق القيمي للحضارات الأخرى .
بالرغم من اتضاح حقيقة الأبعاد الخطيرة لعولمة ثقافية يوجهها تيار يميني محافظ ذو نزعة أصولية مسيحية متمركز في سدة الحكم في الولايات المتحدة وكان وراء هوس الحرب العدوانية في العراق وداعما للسياسة العدوانية لإسرائيل ،ومثيرا للفتن ومهددا للاستقرار داخل عديد من الدول العربية حتى الصديقة للغرب تقليديا، بل وصول الأمر إلى درجة الحديث عن حرب صليبية... بالرغم من ذلك فأن هذا التهديد بدلا من أن يستنهض الهمم ويستثير ويخلق حالة من الاستقطاب أو التمركز الثقافي في العالم العربي أو العربي الإسلامي على أسس جديدة متفتحة على مستجدات العصر ولا تقطع مع ما يفيد من التراث ،عمق من أزمة الثقافة العربية كمنظومة قيمية إن كانت تعبر عن هوية وانتماء لأمة إلا أنها أيضا تعكس نمط علاقات اجتماعية وأنماط تفكير لم تعد تعيننا على مواجهة التحولات العالمية، حيث تفجرت الصراعات الإثنية والطائفية، وتشجعت ثقافات فرعية لتتحول إلى ثقافات مضادة ، وانكشفت أمراض اجتماعية كانت الايدولوجيا تخفي وجودها أو تجملها،ولم يكن الأمر مقتصرا على نمط من الأنظمة دون غيرها بل هي ظاهرة عامة في كل البلدان العربية (التقدمية) منها و(الرجعية) ،فجميعها تشتغل على نفس البنية الثقافية والاجتماعية بغض النظر عن الشعارات الأيديولوجية السطحية . وبات العالم العربي أكثر ضعفا في مواجهة العولمة الثقافية.
لا شك أن مشاريع الإصلاح ونشر ثقافة المعرفة التي تبشر بها العولمة الثقافية فيها الجيد وفيها الرديء، وإن كان يجوز القول بوجود نواياها غير بريئة عند دعاة عولمة الثقافة إلا أن المنظومة الثقافية القيمية والعلاقات الاجتماعية في بلداننا تتحمل مسؤولية كبيرة في خلق علاقة غير متكافئة مع الثقافات الأخرى.
وللإنصاف يجب القول بأن ما نسميه بالثقافة العربية والتي نخشى عليها من الثقافات الغازية باسم العولمة لم تكن بالشيء المثالي الذي يمكن الدفاع عنه، فالمثقفون العرب كانوا يستشعرون الأزمة الثقافية والاجتماعية العميقة التي نمر بها،وقبل أن نصطدم بتحديات العولمة الثقافية جرت محولات عديدة لتجاوز أزمتنا الثقافية والاجتماعية،وإن كان الجميع اتفق على وجود الأزمة وضرورة التغيير إلا أنهم اختلفوا حول الآليات والمناهج.وعليه كنا نلاحظ بألم محاولات التحديث والإصلاح وهي تنتكس أكثر مما تراكم إنجازات، ليس بالضرورة لخلل في نظريات التنمية أو لأسباب اقتصادية خالصة ،بل بسبب – بالإضافة إلى ما سبق ذكره- بنية المجتمع العربي والتي هي بنية أبوية تقليدية أو أبوية جديدة كما يقول هشام شرابي تتميز بالعصبية والنفعية المبنية على الخضوع لمدبر أو راع يتوحد مع الصورة النمطية للأب في الأسرة الأبوية القديمة،حيث الأب له حق الحياة والموت على أفراد أسرته ،أبوية تفضل الأسطورة على العقل والخطابة على التحليل والنقل على الإبداع .
وحديثا،وفي ظل أنظمة ونخب وأيديولوجيا قومية واشتراكية مأزومة، حاول التيار الأصولي مواجهة هذا التحدي الثقافي المتولد عن العولمة،إلا أن توظيف الأصوليين لأدوات ومناهج عمل تقليدية وعنيفة أحيانا، وتشتتهم بين تيارات وأحزاب متباينة ،بالإضافة إلى محاربتهم خارجيا وداخليا، قلل من فرص نجاحهم في الاستجابة لتحدي العولمة الثقافية.وقد أعترف بعض أقطاب التيار الإسلامي بأزمة الخطاب الإسلامي وضرورة أن يتكيف مع عصر العولمة ويستوعب أن العالم يتغير بحيث بات قرية واحدة ، فيوسف القرضاوى ينتقد صراحة الخطاب الإسلامي السائد ويقول "يلزم أهل الخطاب الإسلامي أو الدعوة الإسلامية أن يتحرروا في خطابهم ويتأنوا في دعوتهم ،ولا يلقوا الكلام على عواهنه،فقد غدا العالم كله يسمعهم ويحلل أحاديثهم".
هناك بعد مغيب عند عديد من الباحثين في الثقافة والعولمة الثقافية ،وهو تحول مفهوم الثقافة ،فمن التبسيط ألمتناهي للأمور التعامل مع مفهوم الثقافة اليوم انطلاقا من التعريف الكلاسيكي للثقافة ،كمجموع من العادات والتقاليد وأنماط السلوك المادية والمعنوية التي تميز شعبا عن غيره من الشعوب ،هذا التعريف كان كافيا بحد ذاته عندما كانت المجتمعات تتحكم بالتنشئة الاجتماعية ،ولم يكن للمؤثرات الخارجية كبير تأثير على البنية الثقافية،ولكن في ظل الثورة المعلوماتية ،وهذا التدفق الهائل للأفكار والقيم وأنماط السلوك عبر الفضائيات وشبكات الانترنيت بأساليب مشوقة ومغرية وسهلة الوصول إليها،لم تعد الثقافة نتاج وطني خالص ،ولم تعد لا النظم السياسية والاجتماعية ولا البنى التقليدية بقادرة على التحكم بالتنشئة الاجتماعية وبالتالي بمصادر ومغذيات الثقافة الوطنية.وبالتالي عند الحديث عن تحدي العولمة الثقافية يجب عدم تجاهل الثورة المعلوماتية ومن يتحكم في إنتاجها تقنيا وفي محتواها ثقافيا وأخلاقيا،وهذا يتطلب كما يقول فريدريكو مايور المدير السابق لليونسكو إن أهم متطلبات التنمية الشمولية أن يتحول العلم إلى ثقافة ،ولا داع للتذكير بالتجارب الآسيوية في هذا المجال.
الفصل الثالث
مسألة الهوية في ظل العولمة
1- في مفهوم الهوية Identity
الهوية مفهوم خلافي ويثير كثيرا من الجدل ،ليس فقط من حيث أن الهوية تستدعي حالة تمايز تؤدي أحيانا للصراع مع أصحاب الهويات الأخرى ،بل أيضا من حيث تعريفها ومكوناتها.فمن حيث تعريفها في اللغة العربية ،فمع أنه لا وجود للكلمة في كل من المصباح المنير والقاموس المحيط ولسان العرب وهي أهم مصادر اللغة العربية،إلا ان الجرجاني في كتاب التعريفات عرفها بأنها"الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق"وهذا المعنى يجعل الهوية كمرادف للحقيقة المطلقة في عالم الغيب وهو يختلف عن المعنى الرائج للكلمة اليوم. وعليه ذهب المترجمون العرب القدامى لتوظيف علم الاشتقاق لمقاربة مفهوم الهوية ،فاشتقوا كلمة الهوية من (الهو) ،فالمعنى الفلسفي للهوية هو ما يكون الشيء هو نفسه ،ويقول الفارابي في ذلك "هوية الشيء وعينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له ،كل واحد ، وقولنا إنه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي لا يقع فيه اشتراك " .وهذا ما يؤكد عليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري بالقول بأن معنى الهوية في الفكر الفلسفي العربي "قد استقر ليدل على ما به الشيء هو هو بوصفه وجودا منفردا متميزا عن غيره ".
لا يختلف مفهوم الهوية في القواميس الأجنبية عن المفهوم العربي إلا في المحتوى الذي يرتبط بالثقافة ،فالهوية رديف الأنا الذي هو غير الآخر ،بمعنى أن التعريف الابستمولوجي للهوية لم يتغير ولكن مشتملاتها أو تعريفها الثقافي والحضاري هو الذي طرأت عليه تغيرات . وقد أختلف الباحثون في الموضوعات المتعلقة بالهوية والشخصية إلى أي علم تنسب ، وهكذا تعددت تعريفات الهوية حسب العلم الذي يبحث فيها : علم النفس أو علم الإناسة أو علم الاجتماع ، وسنقتصر هنا على تعريفها في مجال علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي،أي سنعالج هنا الهوية الجماعية Collective Identity والهوية بهذا المعنى هي شعور الفرد بالانتماء إلى جماعة أو جماعات معينة ،تجانس المجتمع هو الذي يحدد ما إذا كانت الهوية إنتماء لجماعة واحدة او لعدة جماعات ،ففي المجتمعات المتجانسة عرقيا وطائفيا تكون الهوية اكثر انسجاما لإن الانتماء يكون لنفس الطائفة ونفس العرق أو الإثنية ،فيما المجتمعات غير المتجانسة تتعدد فيها الانتماءات مما يخلق تعددا في الهويات وهذا التعدد يكون خصبا وبناءا حيث تسود ثقافة الديمقراطية ومؤسساتها وقد يكون عامل صراع ويؤسس لطائفية مقيتة حيث تغيب الديمقراطية.
تتفق أغلب التعريفات بأن الهوية بمفهومها العام هي مجموعة الخصائص التي يمكن للفرد عن طريقها أن يُعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها والتي تميزه عن الأفراد المنتمين للجماعات الأخرى .هذه الخصائص أو المميزات الجمّعية لا تتكون صدفة أو بقرار في لحظة تاريخية ما ،بل تتجمع عناصرها وتطبع الجماعة بطابعها على مدار تاريخ الجماعة من خلال تراثها الإبداعي (الثقافة) وطابع حياتها ( الواقع الاجتماعي ) ، و تعبيرات خارجية شائعة مثل : الرموز والعادات والتقاليد واللهجة أو اللغة ، واهم مكونات الهوية هي تلك التي تنتقل بالوراثة داخل الجماعة وتظل محتفظة بوجودها وحيويتها بينهم مثل :الأساطير والقيم والتراث الثقافي . وبداهة أن الهوية ترتبط بالشخص او الجماعة سواء كانت الجماعة تعيش على أرضها التاريخية أو موزعة في ارض الشتات ، ولكن يجب توفر عنصر الانتماء للجماعة و الوعي بالهوية .
وانطلاقا ما سبق هناك ارتباط قوي ما بين هوية الفرد وهوية الجماعة ،فهذه الأخيرة جمع لأفراد لهم نفس الهوية ،فهوية الفرد تؤثر على هوية الجماعة، وهوية الجماعة تؤثر على هوية الفرد ،وتكون الهوية عند الطرفين أكثر قوة وتماسكا في حالات التهديد الخارجي وإذا ما تشاطر الطرفان نفس البيئة الاجتماعية وبطبيعة الحال نفس الأرض. الهوية عند الفرد تشكل" التعبير الصادق عن ذاتية الإنسان النفسية المستقلة ، التي تميزه عما عداه من آخرين في نفس محيطه .وهي تتكون من خلال عمليات توحد وتطابق ومزج بين المسلمات الشخصية للفرد ، ومن يؤثرون فيه اجتماعيا ونفسيا. ثم تقوم التنشئة الاجتماعية بعملية ربط الهوية الفردية بالهوية الجماعية وتعزيز الشعور بالانتماء للجماعة داخل الفرد ، بالإضافة إلى تحقيق بنية دافعة بداخل الفرد وظيفتها قبول هذا الأخير وتكيفه مع النموذج السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد في المجتمع .وتتقوى هذه النزعة في المجتمع حين تتحول إلى حركات سياسية أو اجتماعية احتجاجية إما في مواجهة تهديد من هويات محلية متعارضة معها او في مواجهة تهديد من هويات أو ثقافات خارجية . كما أن الهوية تتحدد كثقافة في سياق العلاقات الإنسانية حين إدراك المسائل العالمية والوعي بتعقدها. وهذا ما نلمسه اليوم مثلا فيما يسمى بخطر العولمة الثقافية أو صراع الحضارات . لكن تكوين الهوية وتمايزها –إنتاجها-يحتاج إلى زمن طويل ، حيث يؤكد R.Stavenhagen ان الجماعة الإثنية تعد نتاجا للتاريخ وتقاوم من اجل الأرض أو طريقة الحياة . ومن ضمن المعالم المحددة للإثنية أو الهوية العرقية نذكر ( الخصوصيات الثقافية والدين والعرق والسلالة والاقتصاد والقومية والبيولوجيا ...)وهذه كلها بنيات ثقافية وبنيات للهوية تشكل معاني مشتركة للانتماء.
منذ بدايات القرن العشرين وتحديدا في خضم الحرب العالمية الأولى وتوابعها لم تثار قضية أزمة الدولة وتحديدا فيما يتعلق بأزمة ألهوية الوطنية كما هي مثارة اليوم في مناطق متعددة من العالم .وإذ كانت إثارتها بداية القرن العشرين أرتبط بالنقاط الأربعة عشر للرئيس الأمريكي ولسون فيما يخص بالشق المتعلق بحق الشعوب بتقرير مصيرها ،وكانت الشعوب المقصودة آنذاك هي الشعوب الخاضعة للدول المهزومة في الحرب وخصوصا الإمبراطورية العثمانية،فإن إثارتها اليوم ليس بعيدا عن الولايات المتحدة وليس بعيدا عن تفكك إمبراطوريات –المعسكر الاشتراكي سابقا- نتيجة نصر بلا حرب ،إلا أن أزمة الدولة ومسألة الهوية هذه المرة تمس أيضا دولا من العالم الثالث لم تفرح بنشوة الاستقلال الوطني،حبث تَشكلت غالبيتها نتيجة اتفاقات وتفاهمات الحرب العالمية الأولى ونتيجة سياسة تصفية الاستعمار في منتصف القرن الماضي.فالمشكلة اليوم ليس أزمة هويات داخل إمبراطورية بل أزمة هوية داخل الدولة الوطنية أو الدولة البسيطة والمجتمع الواحد ،سواء في دول المعسكر الاشتراكي سابقا أوفي دول إفريقية وعربية وإسلامية.
في الحالة العربية فإن تعرض الهوية العربية والإسلامية للخطر الخارجي ليس بالأمر الجديد ،فمنذ أن فكر الغرب بالتوجه شرقا في إطار سياسة الاستعمار والهيمنة وضع نصب عينية تحطيم وتذويب هوية شعوب المنطقة باعتبار الهوية عامل استنهاض وتوحيد للأمة ،وفي سعيه هذا لجأ لكل الوسائل كالتشكيك بتاريخ الأمة موظفا في ذلك علم الاستشراق وكوكبة من الاستشراقيين وإثارة النعرات الطائفية والعرقية ومحاولة استمالة شرائح وفئات لمشروعه الاستعماري على حساب إقصاء بقية مكونات الأمة الخ وكانت اتفاقات سايكس-بيكو 1916محطة ضمن هذا النهج .ولم يكن الفلسطينيون غائبين عن الاستهداف بل كانوا على راس المستهدَفين من خلال وعد بلفور 1917 وكانوا من نشطي مقاومة هذه الهجمة الاستعمارية ولكن ضمن الحركة القومية العربية وحركة التحرر العربية .
الخطر على الهوية والانتماء اليوم هو أكثر تهديدا ليس فقط نتيجة تمكن الدول الكبرى من وسائل تقنية وإعلامية واقتصادية وفرتها لها الثورة المعلوماتية ،بل أيضا نتيجة ضعف الثقافة الوطنية لشعوب المنطقة العربية وعدم تمكنها خلال النصف الثاني من القرن العشرين من تعزيز مكونات الهوية سواء الوطنية أو العربية أو الإسلامية على أسس صحيحة بل دخلت هذه الهويات من خلال تيارات وقوى حزبية ناطقة باسمها وموظفة لها في مواجهات أحيانا دامية ،القطرية في مواجهة القومية ،والقومية في مواجهة الماركسية ،والهوية الدينية في مواجهة الهويات السابقة مما اضعف كل هذه الهويات وأضعف الأمة كلها.
موضوع الهوية والثقافة إنما هذا مؤشر على وجود حالة من القلق العام الذي يتعدى حالة القلق اليومي للمواطن على أمر معيشته أو المستقبل السياسي للوطن ،القلق على الهوية يتعدى المصالح الشخصية والحزبية والطبقية ليشكل حالة عامة.الثقافات الوطنية في مختلف أرجاء العالم تعيش اليوم في ظل عالم يتعولم قسرا، حالة صراع ومزاحمة لإثبات الوجود وللحفاظ على الخصوصيات ، على الهوية والانتماء حيث عاشت أجيال بعد أجيال تعتبرها من المسلمات غير القابلة للنقاش. أن توجد جماعة بأكملها في حالة من الحيرة والخوف تجاه متغيرات تمس موضوع الهوية ، فهذا دليل على أن هناك مسببات لهذا الخوف وان هناك خطر حقيقي على الهوية ، لا شك أن كثيرا من الشعوب العربية تعيش أزمة هوية وهو ما يتجلى بمظاهر أزمة الدولة من حروب أهلية فعلية أو كامنة وحالة تنازع بين هويات وخصوصا ما بين القطري والقومي والإسلامي والعلماني ، إلا أن هذه ألازمة بالرغم من خطورتها وتهديدها للمرتكزات التقليدية للدولة الموروثة من الاستعمار أو من إيديولوجيات ما بعد الاستقلال إلا أنها لا ترق لدرجة اعتبارها أزمة تهدد وجود الوطن بالمطلق ،هي أزمة تعيد صياغة الدولة إن صح التعبير،وما تشهده العراق والسودان والجزائر نماذج لذلك.
2- تثاقف الهويات:إخصاب للهوية أم تهديد لها؟
حيث أن الهوية هي هوية جماعة أو مجتمع وحيث ان المجتمعات لا تعيش منعزلة عن بعضها البعض وخصوصا في ظل تحول العالم إلى مدينة كونية وليس مجرد قرية كونية ،بل هي تتبادل الخبرات والتجارب مع بعضها البعض تؤثر وتتأثر ٍسواء سادت علاقات حرب أم علاقات سلام ،إذن فالهوية غير محصنة من عوامل التغيير والتبديل ،وبالتالي فأن مفهوم الهوية عندما ننتقل به من التجريد النظري والمدرسي إلى الواقع نجد أنفسنا كما يقول تركي الحمد "ممزقين بين حالتين أو مستويين من أنماط الهوية ،إن صح التعبير،أحدهم:هوية نموذجية متعالية ومتسامية،بل ومقدسة في الذهن ،والآخر:هوية عملية،بل ومدنسة في الذهن رغم الممارسة ،ونحن بين الحالتين مذبذبون ". وعليه يعتبر الحمد بأن الهوية مفهوم ذهني قبل أن يكون وجودا محسوسا،وهذا المفهوم الذهني يقفز إلى الواقع وقت الأزمات والهزائم ،حيث تصبح آلية ووسيلة للدفاع عن الذات ولملمة الذات في مواجهة الآخر.
في كثير من الحالات يتداخل المفهوم العام للهوية مع الهوية العرقية ، فهذه الأخيرة تتميز بخصائص جسمانية او عرقية ، الدين ،اللغة أو في الأصل القومي ، أو في كل هذه الأشياء مجتمعة ، إلا أن قاموس العلوم الاجتماعية يعرف الجماعة او الهوية العرقية بالقول ( يطلق في غالب الأحيان على أي جماعة تختلف عن الجماعات الأخرى في واحدة أو عدد من عادات حياتها). أيضا يجب التأكيد على أن تميز جماعة بهوية لا يعني تطابق أفراد الجماعة في كل شيء وخصوصا بعد تجاوز المفاهيم العنصرية للهوية والقومية وانتشار قيم الديمقراطية التي تؤكد على التعددية . إن التماس الوحدة والتجانس والتماثل أبدا هو التماس لموات الوجود والتماس لخاصية التحجر والجمود وبالتالي تتناقض مع جوهر الديمقراطية. الهوية الحق هي تطابق الهوية مع الاختلاف كما يقول هيجل. وهذا التصور للهوية أخذ به احد المعاصرين وهو المفكر الفرنسي إيف ميشو الذي يرى بأن سر قوة الهويات المعاصرة يكمن في تميزها بالتغير وقبول التغيير والمرونة بحيث تصبح هويات ديناميكية .
لا شك أن التوجه العالمي نحو الديمقراطية هو توجه نحو الأخذ بالتعددية ليس فقط السياسية بل والثقافية أيضا وخصوصا في الدول متعددة الثقافات والأعراق، فلا ديمقراطية دون تعددية بالمفهوم الواسع للكلمة،ولكن ليس كل تعددية تنتمي لثقافة الديمقراطية وتعززها ،الديمقراطية تقوم على أساس التعددية بل والاختلاف في إطار الوحدة "وعلى ذلك فإذا كانت المبالغة في توطيد التعددية الثقافية على حساب الوحدة الثقافية تؤدي إلى تفسخ المجتمع وضياع هوية الثقافة الوطنية المتفردة،فإن المبالغة أو المغالاة في الدفاع عن الوحدة الثقافية برفض كل مصادر التنوع الثقافي تؤدي إلى انغلاق الفكر وتدهور القوى الخلاقة المبدعة وإلى العزلة الثقافية.... ،مما يؤدي إلى النكوص والتراجع والتدهور".
الهوية إذن بما هي ظاهرة اجتماعية ثقافية فهي ليست حالة ثابتة بالمطلق ،فثوابتها هي متغيرات في نفس الوقت ،هي ثوابت من حيث تمييزها جماعة عن أخرها ولكنها متغيرة ومتطورة بتغير وتطور الجماعة وطبيعة علاقاتها مع الجماعات الأخرى عبر التاريخ ،سواء كانت علاقات منتصر بمنهزم أو بالعكس .فالهوية : ليست أقنوما ثابتا وجاهزا نهائيا،كما قد يفهم أحيانا ،وإنما هي مشروع مفتوح متطور على المستقبل ،أي متشابك مع الواقع والتاريخ .وفضلا عن هذا فهي ليست أحادية البنية،أي لا تتشكل من عنصر واحد لها،هو العنصر الديني وحده أو الإثني القومي وحده ،أو اللغوي وحده ،أو الثقافي الوجداني والأخلاقي وحده أو المصلحي وحده ،أو الخبرة التراثية أو العملية وحدها.وإنما هي حصيلة تفاعل هذه العناصر جميعا" .
فإذا كان إعلاء راية الهوية ،وطنية كانت أم قومية أم دينية ،تفرضه الضرورات أحيانا،وهي ضرورات تعبر عن حالة دفاعية في مواجهة عدو خارجي ،إلا أن الحدود قد تزول ما بين الهوية كضرورة للدفاع عن الذات والهوية كضرورة للحشد والتعبئة لنبذ الآخر وإقصاءه أو الاعتداء عليه إن غابت ثقافة التسامح والإيمان بالتعددية ،"فإذا كان معاصرونا لا يحضون بالتشجيع على الاضطلاع بانتماءاتهم المتععدة ،واذا كانوا غير قادرين على التوفيق بين حاجاتهم للانتماء والانفتاح الصريح والخالي من العقد على الثقافات المختلفة،وإذا كانوا يشعرون بأنهم مرغمون على الاختيار بين الإلغاء الذاتي وإلغاء الآخر ،نكون في طريقنا نحو تشكيل جحافل من المسعورين الدمويين ،جحافل من الضالين". ويخلص معلوف للقول "بأن كل منا مؤتمن على ارثين:الأول عمودي يأتيه من أسلافه وتقاليد شعوبه وطائفته الدينية،والثاني أفقي يأتيه من عصره ومعاصريه.ويبدو لي أن الإرث الثاني هو أكثرهما حسما ويكتسب المزيد من الأهمية يوما بعد يوم.ومع ذلك لا تنعكس هذه الحقيقة على إدراكنا لأنفسنا ،فنحن لا ننتسب إلى ترثنا الأفقي بل إلى ارثنا الآخر".
واليوم تتفاقم أزمة الهوية في العالم الثالث كظاهرة يطلق عليها برتراند بادي ، أثننة العالم ،فالعالم يشهد اليوم حالة لا تخلو من تناقض ظاهري، فمن جانب تتعرض ثوابت الهوية للزعزعة ، ومن جهة أخرى تنبثق هويات كانت يُعتقد أنها تلاشت ،وهويات كانت كامنة وخصوصا في مجتمعات فقيرة وضعيفة وجدت في الهوية العرقية أو الدينية الجدار الأخير الذي يحفظ لها كينونتها ويحول دون اندثارها بعد انهيار الأيديولوجيا .اليوم "يجري إخراج الإنسان من يقينيته وذاتيته وكينونته ، وربطه إلى عصر الكونية الذي تذوب فيه كل الخصوصيات " . انقلبت إحدى أدوات العولمة ضدا على مسارها ، حيث شجعت هذه الأخيرة ، المجموعات الإثنية والدينية والقومية على لبس عباءة الديمقراطية . كما أصبح خطاب الهوية القومية يشكل شعارا أيديولوجيا تحتمي به الجماعات الاجتماعية المهمشة ،وهو الامر الذي دفع المفكر الفرنسي جان فرانسوا بيار إلى الأعتقاد بأن الهوية بمفهومها العام غير موجودة ،إنما الموجود مجموعة من استراتيجيات الهوية التي تحركها نخب فاعلة ومستفيدة ،ونعتقد ان هذا الراي لا يخلو من وجاهة بالنسبة لحركات قومية متعصبة أو فاشية او عسكرية تلبيس لباس الهوية وتحارب بسيفها ،كالنازيون في المانيا الهتلرية والصرب بعد إنهيار يوغسلافيا ....ولهذا فالهوية لا تصاغ بقوانين ولا تندثر بقوانين ولكنها كالكهرباء تتغلغل في حياة البشر وتكمن في روح القوانين وفي سلوك الناس وتفكيرهم ومشاعرهم وتستمر ما استمر الانتماء والارتباط بوطن خاص بالجماعة.
لا غرو أن التهديد الرئيس للهويات الثقافية في عالم اليوم يتأتى من العولمة الثقافية التي هي تعبير عن الهوية الثقافية للآخر –الثقافة الغربية المسيحية - التي تتوفر على عناصر القوة والتأثير بحيث تصبح الهويات الثقافية للمجتمعات الضعيفة في حالة خطر، إلا أنه ومهما بلغت قوة العولمة ، فليس بمقدورها تقديم نموذج ثقافي بديل يستطيع تهميش الثقافات المحلية وإفراغ الهويات الثقافية من محتواها او الحيلولة دون التصادم بينها وهذا ما أكد عليه شاهد من أهلها وهو هنتنغتون في كتابه صدام الحضارات ، تَشكُل ثقافة عالمية هو نوع من المحال لان البشر بطبيعتهم مختلفون والله خلقهم كذلك ولم يحدث في تاريخ البشرية أن توحد العالم ضمن هوية ،فلا الديانات السماوية نجحت في ذلك ولا الإمبراطوريات بقوتها نجحت في ذلك . قد تنجح العولمة الاقتصادية والعلمية او المعلوماتية لأنها ترتبط بالجوانب المادية من حياة الإنسان ، إلا أن البعد المتعلق بالهوية والثقافة أي بالجوانب المعنوية ،من لغة وعقيدة وتراث حضاري غير قابلة للتوحد وبالتالي ستبقى مسالة الهوية ملازمة لوجود الدول والمجتمعات.
وفي حالتنا العربية يعتبر تعدد الهويات وتداخلها أمرا يميز العرب عن غيرهم ، فمن هوية وطنية او قطرية إلى قومية إلى إسلامية إلى أممية . و إن كان التعدد أمر إيجابي إلا أن التربية الحزبية والثقافة السياسية لبعض الأحزاب العقائدية عملت على تشوهه الهوية والثقافة ، حيث غلبت الايدولوجيا على الهوية .فالأممية ألغت الوطنية والقومية ، والقوموية ألغت الوطنية ، والإسلاموية ألغت كل شيء حتى العلم الوطني والنشيد الوطني .إن أزمة الهوية في مجتمعاتنا مرتبطة بأزمة الدولة وأزمة الدولة مرتبط بأزمة الهوية وكلاهما يبررا شرعية طرح السؤال من نحن ؟.بالإضافة إلى ما سبق فأن الهوية العربية الإسلامية مشبعة بالأشخاص ،فتقديس الأشخاص والرموز أهم من تقديس الأرض والوطن ، وتاريخ هويتنا وثقافتنا هو تاريخ أشخاص زعماء وليس تاريخ منجزات أو تاريخ دولة ووطن.
الخاتمة
وهكذا وطوال قرن أو ينيف بقيت التساؤلات هي التساؤلات وبقي الواقع هو الواقع مع تغييرات وظهرية لم تمسح الجوهر كثيرا ،وتراكمت التحديات أمام الفكر المفكرون والعقل السياسي العربي ،وإن كان بعض المفكرين ما زالوا أمناء على فكرهم الثوري والوحدوي ويتطلعون لاستنهاضه مجددا ،إلا أن عصر العولمة خلق تحديات غير مسبوقة تجعل استحضار الفكر القومي الوحدوي والفكر الثوري بمفاهيمه القديمة يحتاج لنضال مضاعف ومتعدد الأشكال ،وليس الأمر مع الفكر الإسلامي بأقل صعوبة .
تشكل العولمة اليوم تحديا متعدد الأبعاد ،فما دمنا غير منتجين لها ولا فاعلين فيها إلا بأضيق الحدود،فما علينا إلا استنهاض الكامن أو المتبقي من إمكانياتنا الثقافية والاقتصادية لجعل وقع العولمة اقل خطرا علينا ولتوظيف العناصر الإيجابية فيها،ونعتقد أن العرب وعلى بالرغم من كل مظاهر السلبية البادية على أوضاعهم قادرون على الدخول عصر العولمة بثقة اكبر لو أعادوا إحياء المشاريع الوحدوية السياسية والاقتصادية ولكن على أسس جديدة وبرؤى جديدة، بإضفاء البعدين الديمقراطي والاقتصادي على هذه المشاريع.
الواقع الدولي الراهن والذي تشغل العولمة معظم تفاصيله السياسية والاقتصادية والثقافية ،هو مجرد لحظ عابرة في تاريخ تطور المجتمعات و سيرورة النظام الدولي ،وبالتالي فهو ليس قدرا محتوما أو نهاية التاريخ . لا شك أن الدول المهيمنة وخصوصا الولايات المتحدة وجدت في انهيار المعسكر الاشتراكية وما ترتب عليه من انكشاف أنظمة دول العالم الثالث وخصوصا منها ذات السياسات المعارضة للسياسة الأمريكية،فرصة تاريخية لصيرورة تطلعاتها الهيمنية واقعا تستطيع من خلاله تأمين مصالحها الاقتصادية راهنا وعلى المدى البعيد ومحاصرة البؤر التي تستنهض سياسات معادية لها – ما تسميها الولايات المتحدة بؤر الإرهاب- ،إلا أن الولايات المتحدة بحاجة إلى ورقة التوت التي تخفي هذه التطلعات الهيمنية وتحافظ على صورتها كملتزمة بالشرعية الدولية وبالقيم والأخلاق التي يرتضيها المجتمع الدولي ودول العالم الحر، وورقة التوت هنا هي العولمة.
لا غرو أن الإمكانيات الراهنة للمجتمعات العربية والإسلامية لا تسمح لها بمواجهة تيار العولمة الجارف ،ولكن يمكن استنهاض الهمم بحيث لا نسمح لهذا التيار بجرفنا أو أن نكون لقمة سائغة بفم المتربصين بنا،وهنا يأتي دور المثقفين الملتزمين بقضايا أمتهم لتنوير الرأي العام بحقيقة العولمة ، وإن كانت فئة من المثقفين العرب تعاملت مع العولمة بنظرة المستشرقين مما يجوز نعتهم بـ (المستشرقون العرب) وفئة أخرى تعاملت معها على خلفية نظرية المؤامرة ،فأن فئة ثالثة من المثقفين استطاعت أن توازن ما بين المقاربتين فتتجنب مغالاة الطرفين السابقين بالاعتراف بأن هناك ايجابيات يمكن الاستفادة منها وهناك مخاطر يجب التحذير منها،وهذا ما نتبناه وندعو إليه.
لم تعد رداءة الحالة العربية اليوم موضوعا للمحاجة ،فالمواطن العادي والمثقف والنخبة السياسية - مَن ينتمي منها للسلطة أو للمعارضة-وبكل مشاربهم السياسية وتوجهاتهم العقائدية ...الجميع يقر بالحالة المأساوية التي نعيشها كأمة عربية كانت ذات يوم صاحبة حضارة وكان لها صولات وجولات وإبداعات فكرية وإنسانية شهد بها العالم.وعندما نتحدث عن أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية مأزومة فهذه أوضاع إن كان جزء منها نتاج ظروف ومؤثرات خارجية –هيمنة واستعمار وتآمر-إلا أن الجزء الأكبر هو نتاج ثقافة وأنماط تفكير النخبة ،فكل أمة تصنع واقعها وتاريخها ،وسيكون من السذاجة إحالة كل شيء لمقولات نظرية المؤامرة مع ان المؤامرة هي جزء من السياسة وبالتالي لا يمكن استبعادها كليا .
وحيث أن الفكر انعكاس للواقع وهناك علاقة جدلية ما بين الفكر والواقع فان الفكر العربي مأزوم بالواقع والواقع مأزوم بالفكر ،ولا يمكن تفهم إشكالات الواقع و إيجاد مخارج وحلول لهذه الإشكالات، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، إلا بالفكر العلمي والموضوعي ،فكل هذه المجالات هي فكر ونظر قبل أن تكون سلوكا ومؤسسات وثقافة،ومن ها نلاحظ التلازم في التدهور، تدهور الفكر وتدهور الواقع .
في الوقت الذي كان فيه المفكرون العرب منشغلين بالإشكالات التقليدية وهي نفس الإشكالات التي طرحها مفكرو عصر النهضة كالتنمية والحداثة والوحدة العربية والديمقراطية الخ، دهمتهم العولمة وشكلت تحديا غير مسبوق ،وإن كانت العولمة شكلت تحديا لكل المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية ،إلا أن التحدي الثقافي كان الأكثر إثارة للجدل وخصوصا إنه مس الهوية والانتماء أو يمكن القول إنه أعاد طرح مسألة الهوية من منظور مغاير.ما قبل العولمة كان النقاش حول مسألة الهوية يدور حول الاشتباك ما بين الهوية الوطنية أو القطرية والهوية القومية والهوية الإسلامية، وإن كان هذا الاشتباك قد اخذ في بعض الأقطار وفي بعض الأوقات طابع التعارض والتصادم فانه في أحايين أخرى أقتصر على تحديد الأولويات دون نفي إحداها للأخريات،أما في زمن العولمة الثقافية فقد أصبحت كل هذه الهويات معرضة للتهديد من جانب مما يوصف بالحرب الحضارية ومن جانب آخر من ظاهرة اثننة العالم وإن كانت هذه الأثننة تبدو كحالة متناقضة مع مفهوم العولمة إلا إنها نتاج لها سواء كان مقصودا أم غير مقصود ،ويعتبر العالم العربي مجالا ملموسا لمفاعيل هذه الأثننة سواء في السودان او العراق او الجزائر والمغرب او حتى مصر .
موضوع هذا البحث هو مقاربة الفكر العربي حول الهوية والتحديات المطروحة في هذا السياق ما قبل عصر العولمة وما بعده مع الأخذ بعين الاعتبار تداخل المرحلتين نظرا لصعوبة التأريخ الدقيق لبدء عصر العولمة . وسنقارب الموضوع من خلال الفصول التالية :-
الفصل الأول : الفكر العربي وإشكالية الثورة والديمقراطية
الفصل الثاني :الفكر العربي وتحدي العولمة
الفصل الثالث : مسألة الهوية في ظل العولمة
الفصل الأول
الفكر العربي وإشكالية الثورة والديمقراطية
بالرغم من عراقة الحضارة العربية والإسلامية إذا ما قارناها بحضارات شعوب أخرى،إلا أن عرب اليوم يعيشون حالة من التشرد والتشتت الفكري وعدم التوازن الحضاري أو حالة تبعية حضارية ،وما هو اخطر من ذلك انسداد أفق المستقبل القريب من حيث تبلور مشروع فكري وحضاري عربي يعيد الاعتبار للعرب كأمة عريقة . هذه الحالة العربية ناتجة عن تداخل الماضي مع الحاضر فيما يسمى بإشكال الأصالة والمعاصرة وهو إشكال يعود ضمن أسباب أخرى لكون ماضي العرب أفضل من حاضرهم وهذا الماضي نهض على أساس ديني وضمن شروط ومحددات يصعب إعادة إنتاجها في عالم اليوم ،و بدون مبالغة يمكن القول بأن شعوبنا العربية هي الوحيدة في العالم التي لم تتح لها فرصة للتفكير بحرية لتضع لنفسها النظام السياسي والاقتصادي الذي يناسبها ،فهي أمة ممزقة بين تجاذبات متعددة : تجاذب الماضي والحاضر بحيث بات صوت الأموات فيها أعلى من صوت الأحياء،تجاذب الدين والدنيا أو المقدس والدنيوي ،تجاذب القطري والقومي بل وصل الأمر لتجاذب القبلي والطائفي مع الوطني ،الخ .
فلو فتحنا كتاب (فكرنا ) السياسي لوجدناه مكون من ثلاثة أجزاء وكل جزء منقسم لأجزاء، جزء إسلامي أو ينسب إلى الإسلام :الخلافة والإمامة والحكم بما أنزل الله وسيرة السلف الصالح دون اتفاق حتى داخل الجماعات والنظم الإسلامية على أسس أو قواعد لنظام الحكم في الإسلام ، وثلث أخر مستمد من الغرب وهو خليط من الفكر الليبرالي والرأسمالي والقومي والإقطاعي والديمقراطي المشوه، فكل ما عرفه الغرب من أفكار له صورة مشوهة في فكرنا ، وثلث أخر مستمد من المنظومة الاشتراكية : اشتراكي وشيوعي وثوري وفوضوي وعدمي والحادي وما تنزل من سلطان . لا شيء في الفكر العربي الراهن يعبر عن كينونتنا وهويتنا كأمة واحدة، انه فكر يعبر عن حالة عجز عن إبداع شيء خاص بنا حتى بتنا مجتمعات بدون هوية .
ولأن الدول العربية لمرحلة ما بعد الاستقلال ولِدت مأزومة في شرعيتها وجاءت خارج التطور الطبيعي للمجتمعات ،فلا هي دولة/ أمة ولا هي وريثة لدولة الخلافة ولا هي دولة عقد اجتماعي ولا هي دولة طبقة مهيمنة بالمفهوم الماركسي ،بل أقحمت إقحاما لاعتبارات ومصالح استعمارية ،لكل ذلك كانت المنطقة العربية مجالا خصبا لتوالد الأفكار والنظريات لتأطير مجتمعات لا تجربة سابقة لها بحكم نفسها بنفسها ، وحيث أن عديدا من الدول العربية عاشت مرحلة حركة التحرر ضد الاستعمار ومن يواليه من قوى داخلية، بما هيمن على هذه الحركات من فكر ثوري فقد اتسم الفكر السياسي في هذه المرحلة بنزعة ثورية هي خليط من الفكر القومي والفكر الاشتراكي والفكر الديني دون وضوح الخطوط الفاصلة لكل منهم ،فالمرحلة الناصرية كانت بدايتها ذات صلة بالإخوان المسلمين ثم قطعت معهم لصالح الفكر القومي ثم تحولت أو مزجت الفكر القومي بالفكر الاشتراكي،والأنظمة والحركات التي عرفتها سوريا والعراق واليمن والسودان الخ كانت خليط ما بين الفكر القومي والفكر الاشتراكي مع توظيف للدين بشكل أو آخر.وحتى الأنظمة الملكية كالمغرب والأردن شهدت حركات سياسية قومية واشتراكية وإسلامية ،إلا أنه بالنسبة لهذه الأنظمة فقد وقفت موقفا معاديا لكل هذه الحركات الفكرية التي بدورها وضعت نصب عينيها إسقاط هذه النظم بذريعة أنها نقيض تحرر الشعوب وحريتها .
هيمنت أفكار الحرية والتحرر والوحدة على فكر الحركات السياسية الحديثة والتي أتسم فكرها بنزعة ثورية وقومية مثالية وكانت فكرة الثورة وإقامة الجمهورية فكرة مستحوذة على عقول الجماهير ،وكان هدف إسقاط أنظمة الحكم الملكية له السبق على بقية الأهداف ،وهكذا صُنفت الأنظمة الملكية باعتبارها عقبة في طريق التحرر والتقدم ولم يراهن أصحاب الفكر الثوري على أية إمكانية لنجاح الأنظمة الملكية في مجالات التقدم والتنمية وحقوق الإنسان بالرغم من أن هذه الأنظمة كانت تعرف حالة دستورية وبرلمانية متميزة ، و أولى الثوريون كل اهتمامهم للثورة والأنظمة الجمهورية مراهنين على أن النهضة القومية العربية والتقدم والتحرر لا ولن يتحققوا إلا على يد الأنظمة الثورية، على يد زعماء ثوريين واشتراكيين وقوميين، وكان هاجس قلب الأنظمة مسيطرا وسابقا على هاجس تأسيس الديمقراطية، وسادت هذه الأفكار لسنوات طوال وانتظرت الجماهير العربية أن تتحقق آمالها على يد الأنظمة الجمهورية والأنظمة الثورية، ولم تفكر يوما، أو تهتم بما يجري في أنظمة أخرى ليست جمهورية، ولا ثورية، أو بطريق آخر للتقدم والتحرر غير طريق الثورة والفكر الثوري والاشتراكي.
كانت مشكلة أو خطيئة الفكر السياسي العربي المتطلع نحو التقدم والحرية أنه وضع في حالة تعارض، التحرر والتقدم والتنمية من جهة والديمقراطية من جهة أخرى، أو بشكل آخر، الثورة من جانب والديمقراطية من جانب آخر، فطريق الثورة يتناقض في نظره مع استحقاقات الديمقراطية أو في أفضل الحالات إن الديمقراطية عملية مؤجلة إلى ما بعد قلب أنظمة الحكم وتحقيق التحرر السياسي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية، حتى أن غالبية الأنظمة الثورية العربية عملت مباشرة بعد الثورة على حل الأحزاب السياسية التي كانت متواجدة وعطلت المسار الديمقراطي بحيث تحول القادة الثوريون إلى أسياد جدد بأيديولوجيات جديدة، وتحول الشعب إلى رعايا جدد خاضعين لهؤلاء الأسياد، « وأصبحت الثورة والديمقراطية تناصبان العداء بدلا من أن تمهد إحداها الطريق أمام الأخرى».
هذا التفكير الثوري ذو النزعة الاشتراكية والقومية أقصى من اهتماماته أية إمكانية لتحقيق مطالب الجماهير ومصالح الأمة عن أي طريق غير طريق الثورة والانقلابات العسكرية، وبالتالي لم يكن وارد أن ما لا يتحقق عن طريق الثورة قد يتحقق عن طريق الديمقراطية وبالفكر الإصلاحي، ولم يدرك هؤلاء أنه إن كانت هناك أنظمة ملكية عربية سيئة فهي ليست سيئة لأن نظامها ملكي بل لسوء شخص الملك وحاشيته وسياسته - كما أن الأنظمة الجمهورية ليس بالضرورة جيدة-، فالملكية لم تكن عائقا أمام تقدم وتحضر المملكة البريطانية أو اليابان أو العديد من الدول الأوروبية، وإن الملكية قد تصبح ضرورة لا بد منها في بعض المراحل التاريخية ليلعب الملك دور الحكم ودور المرجعية التي تسمو على التعددية العرقية او الطائفية المتناحرة، فالملك رمز وحدة الأمة وضامن استقرارها عندما تغيب المؤسسات وتغيب دولة القانون وعندما تسود الانتماءات القبلية الطائفية بدل الانتماء للدول وعندما تكون الأمة مهددة بالانهيار وبالحروب الأهلية، أو تكون الدولة حديثة النشأة والتأسيس وتحتاج إلى فترة استقرار حتى تبنى مؤسسات الدولة وينضج المجتمع المدني المؤهل للحكم ويتم التخلص من مخلفات الاستعمار، ولكن على شرط أن يكون الحاكم وطنيا ودستوريا مهيئا شروط بناء الديمقراطية.
لا شك أن فئة من المفكرين والمثقفين العرب كانوا واعين لمخاطر ثورات لا تملك من الثورة إلا اسمها ومحذرين من استبدادية جديدة مغلفة بأيديولوجيات براقة واستقطابية، ولكنهم لم يبلوروا مشروعا فكريا موحدا، حيث كانوا منتمين إلى مدارس ومشارب متعددة من جانب، ومن جانب آخر كانت حالة الترعس الجماهيري وبريق شعارات الثورة والاشتراكية مستحوذة على أذهان الجماهير وتصم آذانها عن أي طروحات مشككة بالانقلابيين وبدعاة الثورية، ومن جهة أخرى إن البدائل القائمة أي الأنظمة العربية الملكية أو التقليدية لم تكن في غالبيتها تشجع على الدفاع عنها، حيث كانت أنظمة رجعية بالفعل ومتخلفة ومتحالفة مع الاستعمار تُجَّهل جماهيرها وتعادي حقوق الإنسان ولكن الأهم من ذلك أن الديمقراطية وثقافتها كانت مغيبة أو ذات حضور ضعيف في الثقافة السياسية العربية .
لا يعني ما سبق الكفر بالثورة والثوار أو تحميل الفكر العربي الثوري والقومي وزر مرحلة بكاملها ، ذلك أن ما لا شك وجود أمور إيجابية لأنظمة الثورة والتقدمية ، ولكن الخلل أن دعاة الثورة والثورية تعاملوا مع الثورة وكأنها حالة متواصلة غير مميزين ما بين الثورة كأداة ونهج لهدم أنظمة فاسدة ومرحلة البناء التي تحتاج إلى فكر وممارسات ليست بالضرورة هي فكر وممارسات مرحلة التهيئة للثورة والقيام بها .إن الثورة مرحلة حيث لا يمكن أن يستمر شعب في حالة ثورة مستمرة ،مرحلة تتميز بدرجة عالية من العنف واستنفاذ الجهد الشعبي إنها وضع استثنائي لتحقيق غرض هو بالأساس إسقاط أو تغيير وضع قائم لا يرضى عنه الشعب ،هدفها الأساسي توظيف حالة التذمر الشعبي وحالة الكراهية والفقر والكبت التي تعاني منها الجماهير لتغيير وتدمير سبب شقاء الشعب أو من يعتبرهم قادة الثورة السبب ،فهي تتعامل مع عواطف الجماهير أكثر مما تتعامل مع عقولهم ،ولكن لا يمكن للشعب أن يستمر في حالة ثورة مستمرة ،وعليه تمر الثورة بمرحلتين ،مرحلة الهدم ومرحلة البناء ،مرحلة الهدم سهلة وكل ثوراتنا العربية نجحت في عملية الهدم لأنها عملية سهلة قد تقتصر على انقلاب عسكري أو اغتيال الملك أو الرئيس ثم يقال لقد نجحت الثورة -غالبية ما نسميه ثورة في مجتمعاتنا العربية هي في الحقيقة انقلابات أو مؤامرات عسكرية وليست بثورة لان الشعب لا يعلم بالثورة إلا بعد حدوث الانقلاب وتغيير نظام الحكم - إن شعب جائع فقير مهان متخلف لا يحتاج إلى كثير جهد حتى يُقذف به في آتون الثورة إنه في حالة ثورة مستمرة حتى ضد نفسه ،وكم هم واهمون ومدعون أولئك الذين ينسبون إلى أنفسهم صفات الذكاء والعبقرية والقيادة الحكيمة لأنهم استطاعوا ان يقودوا شعبا إلى الثورة ،إن من يدعون لأنفسهم فضيلة قيادة ثورة ما هم إلا الأكثر ديماغوجية والأكثر قدرة على التلاعب بعواطف جموع جاهلة فقيرة مقهورة ،ولكن ماذا بعد الفوضى والانقلاب المسمى ثورة ؟ ماذا بعد الهدم ؟ من يبني الجديد ؟.
نجحت الثورة في عمليتها الأولى مرحلة الهدم وقد لا تكلف العملية أكثر من استيلاء على الإذاعة والتلفزيون أو رصاصة في رأس الحاكم الفاسد -الرجعي واليميني وعميل الاستعمار وسبب هلاك الأمة ..الخ- ثم خطاب حماسي يسمى البيان الأول ، حتى يقال لقد نجحت الثورة ،وماذا بعد ؟ كان البَعد بالنسبة لكثير من الأنظمة والحركات الثورية العربية أنهم قضوا على الأنظمة القديمة ثم جلسوا على أنقاضها ، واخذوا يرددون شعارات الثورة وظنوا أن شعارات الثورة ستغني الجماهير عن فقرها وجوعها ،اعتقدوا أن كل مشاكل الجماهير قد حلت بمجرد إسقاط النظام السابق ووصول قادة (الثورة) الى سدة الحكم ،ولكن ماذا بالنسبة للاقتصاد والمديونية والتعليم والتكنولوجيا ،هل يتم تطوير وتحديث المجتمع بشعارات الثورة ،هل يقضى على الفقر والجهل والمديونية ببركات الثوار ودعواتهم ؟هل يقضى على إسرائيل وأمريكا بمجرد تسيير المظاهرات المنددة بالصهيونية والامبريالية ؟.
إن عملية الهدم سهلة وقد يقوم بها ضابط مغمور في الجيش ،ولكن عملية البناء هي الأساس ،لأنها تحتاج الى رجال مختلفين وعقلية مختلفة وأساليب عمل مختلفة.
تجلت مسألة أو إشكالية الهوية خلال المرحلة السابقة في التنازع ما بين الهوية القومية والهوية الأممية والهوية الوطنية ،صحيح أن حركات دينية كجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير كانت لهم رؤية مغايرة للهوية ،إلا أن حضورهم السياسي كان محدودا،وحتى بالنسبة للهوية الأممية فقد كانت غير واضحة المعالم وفي كثير من الحالات كانت أوهاما أو حلما عند بعض الناشطين في الأحزاب الشيوعية ،وللمفارقة فان كثير من الشيوعيين العرب حاولوا إيجاد حالة من المصالحة ما بين الشيوعية والدين بل كان بعضهم يوظف آيات دينية في خطبهم ويبدأ بالبسملة .وفي جميع الحالات كان هم مواجهة الاستعمار المباشر وغير المباشر وقلب أنظمة الحكم يطغى على الانشغال بمسالة الهوية ،وغالبا كان الفكر والمفكرون المعبرون عن الهوية الوطنية القطرية يصنفون كأعداء للوحدة والتحرر وأحيانا كعملاء للاستعمار .
وللمفارقة أنه في الوقت الذي كانت ترتفع فيه شعارات الوحدة العربية والهوية القومية كانت الأنظمة الثورية والقومية ترسخ الإقليمية من حيث تدري أو لا تدري وذلك من خلال مركزية الدولة القطرية ونظام الحزب الواحد وتضخيم الأجهزة الأمنية وتشديد الرقابة على الحدود ومنع حرية الفكر الخ.بل وما هو أكثر خطورة أن هذه الأنظمة والحركات أحيت وعززت الهويات الطائفية والعرقية أي هويات ما قبل الدولة وما قبل الوطنية بحيث بات الانشغال والخوف على الوحدة الوطنية أهم وسابق على الانشغال بالوحدة القومية والهوية القومية .
كثيرة هي أسباب تعثر الفكر السياسي العربي في حل إشكالات الأمة سواء في مسالة الهوية والانتماء أو مسألة التنمية أو في مسالة مواجهة التحديات الخارجية ،إلا أننا نعتقد بان أهم هذه الأسباب هو غياب الديمقراطية سواء عند الحركات و الأحزاب القومية والثورية أو عند الأنظمة أو في الثقافة الشعبية ،ويمكن إرجاع الأسباب لغياب الديمقراطية عن الفكر السياسي العربي فيما يلي :
الأول : غياب نموذج عربي أو إسلامي للحكم الديمقراطي، يمكن الرجوع إليه واستلهامه وهذا الغياب يمس الحاضر كما يمس الماضي - بالرغم من محاولات البعض مماهاة الشورى الإسلامية بالديمقراطية.وكانت الصورة المثالية للحكم في الموروث العربي الإسلامي هي (المستبد العادل ) وبالرغم من وجود تجارب برلمانية ودستورية في بعض الدول قبل الاستقلال.
ثانيا : غياب مفكرين ديمقراطيين متنورين، في مركز القرار السياسي أو في مركز التأثير على أصحاب القرار، قادرين على بلورة رؤية أو مشروع يربط ما بين عالمية الفكرة الديمقراطية والخصوصية الاجتماعية الثقافية العربية الإسلامية، حتى أن إسهامات مفكري النهضة العربية أوائل القرن لم تُستثمر بشكل جدي ولم يُبن عليها أو تُطور، وهي أفكار كانت من الخصب والغنى مما كان يؤهلها آنذاك لتكون نواة مشروع حضاري ديمقراطي عربي، إلا أنها ووجهت بمعارضة من تيارات شتى: قومية وعلمانية ودينية وثورية.
ثالثا : غياب ثقافة الديمقراطية، فالديمقراطية ليست مؤسسات ولكنها ثقافة أيضا، ما يحدث في العالم العربي هو أن خلق المؤسسات الديمقراطية سبق نشر الفكر الديمقراطي - عكس ما حدث في الغرب حيث مهد فكر عصري النهضة والأنوار لتأسيس النظم الديمقراطية - ومن هنا نجد تعارضا بين الثقافة الجماهيرية السائدة التي هي إما أصولية دينية أو ثورية انقلابية أو ديكتاتورية من جهة والثقافة الديمقراطية من جهة أخرى.
رابعا : عملية الاستقطاب الدولي سياسيا وأيديولوجيا أظهرت وكأن الديمقراطية هي خاصية غربية امبريالية، وبالتالي نُظر إليها كجزء من الثقافة الغربية الاستعمارية وأن مقولاتها والمطالبة بتطبيق هذه المقاولات يدخل في باب الغزو الثقافي الغربي.
خامسا :ارتباطا بسابقه، كانت الديمقراطية –وما تزال- وليدة فكر النخبة البرجوازية أو المثقفة فهي جاءت من فوق من القلة الغنية أو المثقفة تثقيفا غربيا ،ونظر للعلاقة غير الطيبة ما بين الجماهير الشعبية والنخبة فقد تعاملت الجماهير بحذر في بداية الأمر مع الديمقراطية ودعاتها.
سادسا: تعليق كل شيء على مشجب فلسطين والخطر الصهيوني، بحيث كانت الأنظمة ومعها الأحزاب السياسية، تعتبر أن الخطر الآني والمباشر ليس الفقر أو انتهاك حقوق الإنسان ولا الأمية ولا غياب الديمقراطية، ولكنه الخطر الصهيوني، وان المرحلة تستوجب توحيد كل الجهود من أجل الوحدة وتحرير فلسطين. وهكذا باسم فلسطين صودرت الحريات، وتعاظمت المعتقلات، وطُورد الأحرار، وجُهلت الجماهير وازداد الفقراء فقرا وازداد الأغنياء غنى، وكانت النتيجة لا فلسطين حُررت ولا الديمقراطية أُنجزت.
سابعا :غياب طبقة أو نخبة مثقفة ديمقراطية لتكون بمثابة القاطرة التي تقود عملية التحول الديمقراطي ،فالطبقة المثقفة العربية كان جزء منها يدور في فلك السلطة والسلطان والمستبعدون من نعيم السلطة أو المبعدين أنفسهم عنها كانت ثقافتهم غير ديمقراطية ،إما ثورية انقلابية أو دينية جهادية ،وفي كلا الحالتين كانت تريد التغيير بغير الأسلوب الديمقراطي .
ثامنا :وخضعت مسالة الهوية لتجاذبات متعارضة وخصوصا ما بين الهوية القومية والهوية الإسلامية والهوية الأممية والهوية الوطنية ،ولم تجر محاولات جادة للتوفيق بين هذه الهويات من خلال تحديد الأولويات بحيث يتم الانتقال من دائرة لأخرى دون تصادم .
تاسعا:أنتجت الأنظمة الثورية والقومية نقيض خطابها وأيديولوجيتها ،ففيما كانت تتحدث عن الوحدة العربية والأمة العربية ،كان منطق وواقع سلطة هذه الأنظمة يرسخ إقليمية مقيتة بل قبلية وطائفية ،وتحول مفهوم الوطن والوطنية إلى حاجز يحد من التوجهات الوحدوية والقومية .
عاشرا :كردة فعل على الخطر المتوهم الذي تشكله أنظمة الثورة، انغلقت الأنظمة التقليدية على نفسها و أنتجت هوية خاصة موظفة الدين والتراث والأصالة،وانقسمت الأنظمة العربية بالتالي ما بين أنظمة ذات شرعية دينية وأنظمة ذات شرعية ثورية ،فيما هي في حقيقة الأمر تفتقر لأية من هذه الشرعيات ما دام الشعب مغيبا عن مركز القرار وليس حرا في اختيار من يحكمه .
نخلص مما سبق أن العقل السياسي العربي وطوال سنوات ما بعد الاستقلال وإلى نهاية القرن العشرين لم ينجح في حل بلورة فكر يمكن نعته بحق بأنه فكر عربي ذو سمات محددة ،وبالتالي لم ينجح في المواءمة ما بين مقولاته وبين مجريات الواقع ،وجاءت العولمة وفكرها ليشكل تحديا جديا يضاف لتحدي الديمقراطية والتنمية الذي فشل العرب في مواجهته .
الفصل الثاني
الفكر العربي وتحدي العولمة
1- العولمة تجدد تساؤلات عصر النهضة
كان الانفتاح على حداثة الغرب والذي دشن ما سمي بعصر النهضة العربية بمثابة الصدمة، نظرا لما كشفه من اتساع الهوة ما بين واقع العرب والمسلمين من جهة وما عليه أوروبا من حضارة وتقدم من جهة أخرى. وانشغل مفكرو تلك المرحلة بالسؤال (لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمون ؟) وكيف يمكن اللحاق بالركب ؟.وهو نفس السؤال الذي يشغل (المتعولمين) العرب والمسلمين ذوي النزعة الوطنية منذ العقد الأخير من القرن العشرين.
شكلت تلك المرحلة- نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين- إرهاصات منعطف فكري في العالمين العربي و الإسلامي ،وكانت تبشر ببداية نهضة تحرر شعوب المنطقة من حالة التخلف والركود التي تعيشها ،"في تلك الحقبة لم يعد التحديث يعني إطلاقا الأخذ عن الغرب للانتفاض على الشرق،بل يصبح يعني مواجهة الغرب بحداثة خاصة بالإسلام". إلا أن عوامل داخلية وخارجية لا داع للغوص فيها أعاقت مشروع النهضة العربية، بل أجهضت آنذاك بعض إنجازات الحداثة ، ونعتقد بأن أهم عوامل فشل مشروع فكر النهضة العربية هو فردانية دعوات الإصلاح والتحديث وتشتتهم بين مذاهب ومدارس فكرية متعددة ما بين عروبية وإسلامية ووطنية وبالتالي عدم وجود ناظم مشترك ،سواء على أساس إسلامي أو على أساس قومي،أيضا عدم القدرة على التمييز ما بين الحداثة Modernizationوالتغريب Westernization،فالحداثة لا تلغي الخصوصيات والهويات الوطنية بالضرورة، ولكن التغريب قد يؤدي لذلك،فاليابان اقتحمت عالم الحداثة بقوة دون أن تلغي خصوصياتها الثقافية.
واليوم وبعد قرن من الزمن وكأن التاريخ يعيد نفسه، فنفس القضايا التي شغلت مفكري ذلك العصر: المرأة، الحرية، الإصلاح السياسي، النهضة الاقتصادية، تجديد الخطاب الديني وتحديث التراث الخ، تتكرر اليوم ولكن في ظل فجوة معرفية وحضارية بيننا وبين الغرب أكثر اتساعا، وفي ظل أوضاع سياسية وثقافية أكثر تشرذما وإحباطا وفي ظل تعدد للمواقف الفكرية للمثقفين من العولمة. تساؤلات ما قبل قرن من الزمن كانت تدور حول الحداثة أهي التغريب المهدد لهويتنا وثقافتنا؟ وتساؤلات اليوم تدور حول العولمة أهي الأمركة المهددة لثقافتنا وحضارتنا؟. فهل سنتعلم من التاريخ ولا نكرر أخطاء الماضي؟ أو سنفكر بطريقة مختلفة مستمدة من منطق العولمة ذاته، مؤداها أنه لا مكان في عصر العولمة للكيانات الصغيرة ،وهذا يتطلب عولمة العالم العربي أولا ثم الدخول في عصر العولمة الكونية .
من هذا المنطلق يصعب مقاربة ظاهرة العولمة وانعكاساتها على العالم العربي دون ربط الموضوع بالثقافة، سواء بمفهومها الضيق الذي يتماهى مع مفهوم الهوية، أو بمفهومها الشامل الذي يتطابق مع مفهوم الحضارة – البعدين المادي والمعنوي للثقافة- والذي اخذ اليوم طابع الصراع الحضاري. و هذا الربط له مسوغاته نظرا لتزامن تدافع تنظيرات العولمة ومأسستها اقتصاديا وثقافيا وسياسيا وإعلاميا مع أزمة عميقة تشهدها مجتمعاتنا، أزمة شرعية مستعصية ،أزمة النظم السياسية و الاقتصادية والثقافة ،وأزمة التضامن العربي ولا نقول الوحدة العربية، وفي ظل مد أصولي لم تعرفه المنطقة سابقا. ومجتمع مأزوم بهذه الدرجة ينتابه خوف من كل ما هو جديد ووافد من الخارج، الخوف والحذر من كل ما هو وافد يؤدي للانغلاق على الذات والهوية والحنين للماضي قبل أي تفكير وتمحيص عقلاني لهذا الوافد الجديد، ولكنها لأسف ذات مأزومة وهوية مأزومة،وبالتالي ينطبق المثل القائل (كالهارب من الرمضاء إلى النار).
لا شك أن لهذا الخوف ما يبرره نظرا لتزامن الحديث عن العولمة مع عصر يشهد مؤشرات نهاية كثير من الأفكار والمنظومات السياسية والاقتصادية والفكرية التي شغلت العالم خلال القرن العشرين وما سبقه، بل يمكن القول إن العولمة هي تكثيف وتجميع وتسريع لنهايات وما بعديات، ما بعد الاشتراكية والشيوعية وما بعد الرأسمالية والليبرالية بمفاهيمهم التقليدية وما بعد السيادة الوطنية وما بعد الاستقلال وما بعد الشرعية الدولية وما بعد الثورة الصناعية وما بعد الثقافة المكتوبة وما بعد العلمانية،الخ. العولمة هي عصر "يلهث فيه قادمه يكاد يلحق بسابقه ،وتتهاوى فيه النظم والأفكار على مرأى من بدايتها،وتتقادم فيه الأشياء وهي في أوج جدتها،عصر تتآلف فيه الأشياء مع أضدادها" .هذه النهايات إن كانت لا تثير كثير قلق عند دول الشمال المتقدمة، فالأمر مغاير عند المجتمعات العربية والإسلامية حيث صوت الأموات فيها أقوى من صوت الأحياء، والحنين للماضي يطغى على التطلع للمستقبل، والأهم من ذلك يصعب الحديث عن نهايات فيما المجتمعات العربية لم تستكمل بناء الدولة ولم تنجز هدف الاستقلال، لا السياسي ولا الاقتصادي. ولكن ... الخوف ليس مبررا للهرب بل يجب أن يكون دافعا للتحدي والمواجهة.
في رأينا إن العولمة ليست سيئة بالمطلق ولا جيدة بالمطلق، كما أنها ليست خيارا مطروحا على الدول والمجتمعات يمكنها الأخذ بها أو تجاهلها، بل هي نتاج لتحولات متدرجة عرفها العالم خلال عقود طويلة بل خلال قرون، تحولات هي في جانب منها بمثابة تطور طبيعي ومنطقي لترتيبات وأوضاع سابقة، وفي جانب أخر مخطط لها بحيث تأخذ مسارا يخدم قوى محددة ذات مصالح كبرى، ومن جانب ثالث تحولات مفروضة بفعل تفاعلات داخلية ودولية، وبالتالي نعتبر العولمة تحد يجب مواجهته للاستفادة من ايجابياتها أو التقليل من مخاطرها.
إذا اتفقنا على هذه المقاربة المفاهيمية للعولمة ،فأين موقعنا كعرب ومسلمين منها ؟وما هي تداعياتها على مجتمعاتنا ونظمنا الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ؟ وهل هي فرصة علينا اهتبالها ؟أم خطر علينا اتقاء شره؟ أم هي تحد يمكننا إن أحسنا التصرف حيالها أن نتقي شرها ونستفيد من إيجابياتها؟. ولكن وقبل الإجابة على هذه التساؤلات ،لا بد من الإشارة إلى أن مجتمعات أخرى طُرحت عليها هذه التساؤلات ،إلا أن المنعة الاقتصادية والثقافية لهذه المجتمعات جعل وقّع العولمة عليها أقل حدة ،بل جنت من ايجابيات العولمة أكثر مما عانت من سلبياتها ،هذا هو حال ما يسمى بالتنينات الأسيوية ودول المعسكر الاشتراكي سابقا ،بل إن فرنسا الدولة الغربية الرأسمالية كان لديها في البداية تخوفات من البعد الثقافي للعولمة ،حيث خشيت على لغتها وثقافتها من اللغة الانجليزية والثقافة الأمريكية ،وعليه طالبت فرنسا على لسان رئيسها جاك شيراك بضرورة تقنين العولمة.
لا غرو بأن العولمة مثل الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية واقتصاد السوق والاشتراكية و المجتمع المدني الخ، من المصطلحات التي أصبحت تتردد كل يوم في خطابنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتشكل حيزا كبيرا من هذا الخطاب ،ولكن دون أن تكون متأصلة لا في ثقافتنا ولا في وعينا السياسي ،مصطلحات أقحمت إقحاما وجاءت مستوردة مثلها مثل ما استوردنا من أيديولوجيات وأفكار وسلع وعلوم وتكنولوجيا، وتزايد مثل هذه المصطلحات في خطابنا السياسي والاقتصادي ،وما يستتبع ذلك من محاولة مأسسة لهذه المصطلحات ،إنما يعكس أزمة عميقة ،وهي أزمة الإبداع في مختلف المجالات ،العجز عن الإبداع والإسهام في حضارة العصر هو الذي يجعل مجتمعاتنا غير محصنة في مواجهة كل ما هو جديد، وهو عجز يساعد على إيجاد المبررات الأخلاقية والعملية لثقافة التقليد والتبعية.
العيب ليس بالضرورة في العولمة وغيرها من المصطلحات وما تحيل إليه من دلالات وما تنتمي إليه من منظومات فكرية أو نظم سياسية واقتصادية ،بل العيب في من يستوردها ويتعامل معها، إما كمسلمات يتم التعامل معها وتطبيقها دون محاولة لإعمال العقل لتبيئتها لتصبح مناسبة للخصوصيات التاريخية والموضوعية بما فيها الثقافية للمجتمع المستورِد لها، أو كخطر و تهديد يجب مقاومته والوقوف منه موقف المعارض والمحارب دون تفكير لا لشيء إلا لكونها مستوردة من الآخر ، والأخر في نظر هذا التوجه عدو لا يجوز الأخذ منه أو التشبه به !.
ونعتقد أن التعامل العقلاني والموضوعي مع موضوع العولمة وغيرها من النظم الفكرية والاقتصادية المستورة يتطلب عقلية متفتحة وموضوعية بمعنى الكلمة ، ونقطة المنطلق في التعامل مع الموضوع هو الإقرار بأننا كمجتمعات عربية وإسلامية توقفنا عن المساهمة الحضارية منذ القرن الخامس عشر( سواء كانت الأسباب داخلية كخضوعنا لنظم استبدادية متسلطة أو خارجية كالاستعمار )،وان غالبية مشتملات الحضارة الحديثة هي نتاج الآخر ،العالم الغربي والمسيحي ،والقول بأننا كنا أصحاب حضارة أو ساهمنا في وضع أسس الحضارة الإنسانية لا يفيد في شيء ،ما دمنا اليوم نعتمد في معيشتنا على منتجات الآخر الثقافية والاقتصادية والعلمية ،وهذا القول لا يعني التقليل من شان السلف الصالح ، فهو سلف أولا وكان صالحا آنذاك ثانيا . المهم ما هي مساهمتنا في حضارة اليوم ؟.فإذا اعترفنا أن مساهمتنا المباشرة معدومة أو محدودة ، وإذا اعترفنا بأننا لا نستطيع أن نستغني عن معارف وعلوم ونتاج الآخر قائد قاطرة العولمة،لان كل حياتنا تقريبا معتمدة على منتجات الحضارة الغربية ،بل نعيش عالة عليها، لغياب مساهمتنا فيها أو لخلل أنظمتنا السياسية والثقافية أو للسببين معا ، إذن التقوقع على الذات والوقوف موقف الرافض لكل ما هو مستورد وجديد هو موقف ليس فقط غير عقلاني بل موقف غير أخلاقي.
لا يعني ما سبق بأن علينا التسليم باستحقاقات وشروط العولمة وكل ما هو وافد دون تمحيص، من منطلق الزعم بعالمية الفكر وعالمية القيم والنظم السياسية والاقتصادية وخصوصا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتأزم نظمنا السياسية وتبلد نظمنا الفكرية والثقافية ، بل المطلوب التوفيق بين ما هو وافد من جانب وواقع مجتمعاتنا من جانب أخر دون إضفاء القدسية على أي من الطرفين .فالعولمة كمنظومات اقتصادية (اقتصاد السوق) وكمنظومة ثقافية (قيم وأنماط سلوك ولغة تخاطب) وكمنظومة سياسية (خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان) ، تحتاج إلى تبيئة لأنه من حيث المبدأ ومما هو علمي أن أية نظرية أو منظومة سياسية أو اقتصادية ،لا تأخذ مصداقيتها وصلاحيتها إلا لأنها وليد بيئة اجتماعية وثقافية محددة و معبرة عنها ،و نتاج لشروط تاريخية وموضوعية ،وتغير هذه الشروط يُفقد الفكر وما يرتبط به من ممارسة علميته وبالتالي عالميته ،لأنه يتحول إلى فكر منفصل عن الواقع . ولكن بالمقابل هل نظمنا المعاشة التي لم تسعفنا على أن نكون خير امة أخرجت للناس ،ولا أن تضمن لشعوبنا حياة كريمة ،قادرة على الاستجابة لتحديات العصر وعلى رأسها العولمة؟.
انطلاقا من حقيقة الأوضاع العربية المتردية ومحدودية القدرة أو الإرادة – لأن القدرة مرتبطة بالإرادة، ولا قيمة لقدرة دون إرادة- على أن نكون فاعلين أو مؤثرين في التحولات الدولية المعاصرة ،فان خياراتنا في مواجهة العولمة تبقى محدودة، والأسلوب الأمثل في رأينا في التعامل مع العولمة ليس النظر إليها كخطر أو شر داهم ولا كفرصة سانحة علينا الارتماء بأحضانها دون تفكير، بل كتحد، تحد اقتصادي وتحد ثقافي وتحد سياسي، والتحدي يستوجب المواجهة لا الهروب ،استنهاض الهمم لا التواكل، وهذا يتطلب وضع الاستراتيجيات المناسبة لمواجهة هذا التحدي، والسؤال المركزي الذي تطرحه العولمة في هذا السياق كما يقول برهان غليون "ما هي الإستراتيجية المناسبة من وجهة نظر مجتمع صناعي أو متأخر أو مهمش للاستفادة من الثورة التقنية ودرء مخاطر العولمة الناتجة عنها؟" . تحدي العولمة يحتم وضع استراتيجية لن تكون ذا قيمة إلا إذا وضعت على أساس قومي عربي ،إي خلق )عولمة عربية) منها ننطلق لمواجهة العولمة الكونية .
2) الثقافة العربية في مواجهة ثقافة العولمة
تملك البعض وهم بأن العولمة تعني إزالة كل الحدود وأشكال التمايز بين الشعوب وهذا ما تم استنتاجه مبكرا في مقال لفرانسيس فوكوياما (F.FUKUYAMA) تحت عنوان "نهاية التاريخ" 1989 ، حيث خلص في بحثه إلى أن الليبرالية السياسية والاقتصادية التي انتصرت على كل منافسيها عبر التاريخ هي المؤهلة لسيادة العالم دون منازع. إلا أنه أربعة سنوات بعد ذلك، وفي صيف 1993، صدر مقال أثار ضجة كبيرة تحت عنوان: "صراع الحضارات" لصامويل هنتنغتون (S.HINTINGTON) منطلقا من الفرضية الآتية: "المصدر الأساسي للصراعات في العالم الجديد، لن يكون بالدرجة الأولى إيديولوجيا ولا اقتصاديا، إن الانقسام الكبير بين البشر والمصدر الأساسي للخلاف سوف يكون ثقافي"، وإن الدول سوف تظل القوى المؤثرة في الشؤون الدولية، ولكن الخلافات الرئيسية بين دول العالم سوف تقع بين جماعات حضارية مختلفة، إن صراع الحضارات سيكون المرحلة الأخيرة في تطور الخلافات في العالم. وأهم الصدامات في نظره، سوف تحدث عند خطوط التماس الفاصلة بين الحضارات التالية: الحضارة الغربية، الكونفوشية، اليابانية، الإسلامية، الهندوكية، السلافية، الارتوذوكسية، أمريكا اللاتينية، وضمن هذه الحضارات يبرز التحالف الكونفوشي الإسلامي المحتمل باعتباره تهديدا للحضارة الغربية،وطالب هنتنغتون بضرورة مواجهته منذ الآن عبر شبكة من الاستراتيجيات و التحالفات الدولية.
إلا أن الذي جرى خلال العقدين الأخيرين هو تزامن العولمة كمسعى لإزالة الحدود وتحويل العالم لقرية كونية تتجاوز الصراعات والحدود الثقافية، مع الانفجار الحقيقي للاحتكاكات بين الشعوب والثقافات على المستوى الدولي،حيث تفجرت صراعات جديدة تقوم على أسس ثقافية –عرقية وطائفية-أو ما يمكن تسميته (أثننة العالم) أو التفكيك Fragmentation .ما وراء الشعارات البراقة للعولمة تأكد أن المروجين لها والمتحكمين بآلياتها ينطلقون من اتجاه تبشيري يعبر عن أنوية حضارية غربية مسيحية أو مركزية ثقافية Ethnocentarism يهدف" إلى إذاعة ونشر القيم التي تمثل القاعدة المحورية لهذه الحضارة ،كما يهدف إلى تطوير القيم المقبولة ورفض ونبذ الأشكال الاجتماعية غير المقبولة ،ومن ثم فالتعاون الدولي يتجه نحو قبول تفسير محدد لبعض القيم وذلك عن طريق عزل وإدانة الدول التي تفسر هذه القيم بطرق مختلفة،وقد يؤدي ذلك إلى حرب مقدسة تستهدف فرض مثل هذه القيم باعتبارها قيم عالمية" . وفي ذلك يقول عبد الإله بلقزيز بأن العولمة الثقافية ما هي إلا التعبير المكشوف عن السيطرة الثقافية الغربية التي توظف مكتسبات الثورة المعلوماتية لهذا الغرض وفي نفس السياق يرى سمير أمين بان العولمة طرحت نفسها كايدولوجيا تعبر عن النسق القيمي للغرب على حساب النسق القيمي للحضارات الأخرى .
بالرغم من اتضاح حقيقة الأبعاد الخطيرة لعولمة ثقافية يوجهها تيار يميني محافظ ذو نزعة أصولية مسيحية متمركز في سدة الحكم في الولايات المتحدة وكان وراء هوس الحرب العدوانية في العراق وداعما للسياسة العدوانية لإسرائيل ،ومثيرا للفتن ومهددا للاستقرار داخل عديد من الدول العربية حتى الصديقة للغرب تقليديا، بل وصول الأمر إلى درجة الحديث عن حرب صليبية... بالرغم من ذلك فأن هذا التهديد بدلا من أن يستنهض الهمم ويستثير ويخلق حالة من الاستقطاب أو التمركز الثقافي في العالم العربي أو العربي الإسلامي على أسس جديدة متفتحة على مستجدات العصر ولا تقطع مع ما يفيد من التراث ،عمق من أزمة الثقافة العربية كمنظومة قيمية إن كانت تعبر عن هوية وانتماء لأمة إلا أنها أيضا تعكس نمط علاقات اجتماعية وأنماط تفكير لم تعد تعيننا على مواجهة التحولات العالمية، حيث تفجرت الصراعات الإثنية والطائفية، وتشجعت ثقافات فرعية لتتحول إلى ثقافات مضادة ، وانكشفت أمراض اجتماعية كانت الايدولوجيا تخفي وجودها أو تجملها،ولم يكن الأمر مقتصرا على نمط من الأنظمة دون غيرها بل هي ظاهرة عامة في كل البلدان العربية (التقدمية) منها و(الرجعية) ،فجميعها تشتغل على نفس البنية الثقافية والاجتماعية بغض النظر عن الشعارات الأيديولوجية السطحية . وبات العالم العربي أكثر ضعفا في مواجهة العولمة الثقافية.
لا شك أن مشاريع الإصلاح ونشر ثقافة المعرفة التي تبشر بها العولمة الثقافية فيها الجيد وفيها الرديء، وإن كان يجوز القول بوجود نواياها غير بريئة عند دعاة عولمة الثقافة إلا أن المنظومة الثقافية القيمية والعلاقات الاجتماعية في بلداننا تتحمل مسؤولية كبيرة في خلق علاقة غير متكافئة مع الثقافات الأخرى.
وللإنصاف يجب القول بأن ما نسميه بالثقافة العربية والتي نخشى عليها من الثقافات الغازية باسم العولمة لم تكن بالشيء المثالي الذي يمكن الدفاع عنه، فالمثقفون العرب كانوا يستشعرون الأزمة الثقافية والاجتماعية العميقة التي نمر بها،وقبل أن نصطدم بتحديات العولمة الثقافية جرت محولات عديدة لتجاوز أزمتنا الثقافية والاجتماعية،وإن كان الجميع اتفق على وجود الأزمة وضرورة التغيير إلا أنهم اختلفوا حول الآليات والمناهج.وعليه كنا نلاحظ بألم محاولات التحديث والإصلاح وهي تنتكس أكثر مما تراكم إنجازات، ليس بالضرورة لخلل في نظريات التنمية أو لأسباب اقتصادية خالصة ،بل بسبب – بالإضافة إلى ما سبق ذكره- بنية المجتمع العربي والتي هي بنية أبوية تقليدية أو أبوية جديدة كما يقول هشام شرابي تتميز بالعصبية والنفعية المبنية على الخضوع لمدبر أو راع يتوحد مع الصورة النمطية للأب في الأسرة الأبوية القديمة،حيث الأب له حق الحياة والموت على أفراد أسرته ،أبوية تفضل الأسطورة على العقل والخطابة على التحليل والنقل على الإبداع .
وحديثا،وفي ظل أنظمة ونخب وأيديولوجيا قومية واشتراكية مأزومة، حاول التيار الأصولي مواجهة هذا التحدي الثقافي المتولد عن العولمة،إلا أن توظيف الأصوليين لأدوات ومناهج عمل تقليدية وعنيفة أحيانا، وتشتتهم بين تيارات وأحزاب متباينة ،بالإضافة إلى محاربتهم خارجيا وداخليا، قلل من فرص نجاحهم في الاستجابة لتحدي العولمة الثقافية.وقد أعترف بعض أقطاب التيار الإسلامي بأزمة الخطاب الإسلامي وضرورة أن يتكيف مع عصر العولمة ويستوعب أن العالم يتغير بحيث بات قرية واحدة ، فيوسف القرضاوى ينتقد صراحة الخطاب الإسلامي السائد ويقول "يلزم أهل الخطاب الإسلامي أو الدعوة الإسلامية أن يتحرروا في خطابهم ويتأنوا في دعوتهم ،ولا يلقوا الكلام على عواهنه،فقد غدا العالم كله يسمعهم ويحلل أحاديثهم".
هناك بعد مغيب عند عديد من الباحثين في الثقافة والعولمة الثقافية ،وهو تحول مفهوم الثقافة ،فمن التبسيط ألمتناهي للأمور التعامل مع مفهوم الثقافة اليوم انطلاقا من التعريف الكلاسيكي للثقافة ،كمجموع من العادات والتقاليد وأنماط السلوك المادية والمعنوية التي تميز شعبا عن غيره من الشعوب ،هذا التعريف كان كافيا بحد ذاته عندما كانت المجتمعات تتحكم بالتنشئة الاجتماعية ،ولم يكن للمؤثرات الخارجية كبير تأثير على البنية الثقافية،ولكن في ظل الثورة المعلوماتية ،وهذا التدفق الهائل للأفكار والقيم وأنماط السلوك عبر الفضائيات وشبكات الانترنيت بأساليب مشوقة ومغرية وسهلة الوصول إليها،لم تعد الثقافة نتاج وطني خالص ،ولم تعد لا النظم السياسية والاجتماعية ولا البنى التقليدية بقادرة على التحكم بالتنشئة الاجتماعية وبالتالي بمصادر ومغذيات الثقافة الوطنية.وبالتالي عند الحديث عن تحدي العولمة الثقافية يجب عدم تجاهل الثورة المعلوماتية ومن يتحكم في إنتاجها تقنيا وفي محتواها ثقافيا وأخلاقيا،وهذا يتطلب كما يقول فريدريكو مايور المدير السابق لليونسكو إن أهم متطلبات التنمية الشمولية أن يتحول العلم إلى ثقافة ،ولا داع للتذكير بالتجارب الآسيوية في هذا المجال.
الفصل الثالث
مسألة الهوية في ظل العولمة
1- في مفهوم الهوية Identity
الهوية مفهوم خلافي ويثير كثيرا من الجدل ،ليس فقط من حيث أن الهوية تستدعي حالة تمايز تؤدي أحيانا للصراع مع أصحاب الهويات الأخرى ،بل أيضا من حيث تعريفها ومكوناتها.فمن حيث تعريفها في اللغة العربية ،فمع أنه لا وجود للكلمة في كل من المصباح المنير والقاموس المحيط ولسان العرب وهي أهم مصادر اللغة العربية،إلا ان الجرجاني في كتاب التعريفات عرفها بأنها"الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق"وهذا المعنى يجعل الهوية كمرادف للحقيقة المطلقة في عالم الغيب وهو يختلف عن المعنى الرائج للكلمة اليوم. وعليه ذهب المترجمون العرب القدامى لتوظيف علم الاشتقاق لمقاربة مفهوم الهوية ،فاشتقوا كلمة الهوية من (الهو) ،فالمعنى الفلسفي للهوية هو ما يكون الشيء هو نفسه ،ويقول الفارابي في ذلك "هوية الشيء وعينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له ،كل واحد ، وقولنا إنه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي لا يقع فيه اشتراك " .وهذا ما يؤكد عليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري بالقول بأن معنى الهوية في الفكر الفلسفي العربي "قد استقر ليدل على ما به الشيء هو هو بوصفه وجودا منفردا متميزا عن غيره ".
لا يختلف مفهوم الهوية في القواميس الأجنبية عن المفهوم العربي إلا في المحتوى الذي يرتبط بالثقافة ،فالهوية رديف الأنا الذي هو غير الآخر ،بمعنى أن التعريف الابستمولوجي للهوية لم يتغير ولكن مشتملاتها أو تعريفها الثقافي والحضاري هو الذي طرأت عليه تغيرات . وقد أختلف الباحثون في الموضوعات المتعلقة بالهوية والشخصية إلى أي علم تنسب ، وهكذا تعددت تعريفات الهوية حسب العلم الذي يبحث فيها : علم النفس أو علم الإناسة أو علم الاجتماع ، وسنقتصر هنا على تعريفها في مجال علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي،أي سنعالج هنا الهوية الجماعية Collective Identity والهوية بهذا المعنى هي شعور الفرد بالانتماء إلى جماعة أو جماعات معينة ،تجانس المجتمع هو الذي يحدد ما إذا كانت الهوية إنتماء لجماعة واحدة او لعدة جماعات ،ففي المجتمعات المتجانسة عرقيا وطائفيا تكون الهوية اكثر انسجاما لإن الانتماء يكون لنفس الطائفة ونفس العرق أو الإثنية ،فيما المجتمعات غير المتجانسة تتعدد فيها الانتماءات مما يخلق تعددا في الهويات وهذا التعدد يكون خصبا وبناءا حيث تسود ثقافة الديمقراطية ومؤسساتها وقد يكون عامل صراع ويؤسس لطائفية مقيتة حيث تغيب الديمقراطية.
تتفق أغلب التعريفات بأن الهوية بمفهومها العام هي مجموعة الخصائص التي يمكن للفرد عن طريقها أن يُعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها والتي تميزه عن الأفراد المنتمين للجماعات الأخرى .هذه الخصائص أو المميزات الجمّعية لا تتكون صدفة أو بقرار في لحظة تاريخية ما ،بل تتجمع عناصرها وتطبع الجماعة بطابعها على مدار تاريخ الجماعة من خلال تراثها الإبداعي (الثقافة) وطابع حياتها ( الواقع الاجتماعي ) ، و تعبيرات خارجية شائعة مثل : الرموز والعادات والتقاليد واللهجة أو اللغة ، واهم مكونات الهوية هي تلك التي تنتقل بالوراثة داخل الجماعة وتظل محتفظة بوجودها وحيويتها بينهم مثل :الأساطير والقيم والتراث الثقافي . وبداهة أن الهوية ترتبط بالشخص او الجماعة سواء كانت الجماعة تعيش على أرضها التاريخية أو موزعة في ارض الشتات ، ولكن يجب توفر عنصر الانتماء للجماعة و الوعي بالهوية .
وانطلاقا ما سبق هناك ارتباط قوي ما بين هوية الفرد وهوية الجماعة ،فهذه الأخيرة جمع لأفراد لهم نفس الهوية ،فهوية الفرد تؤثر على هوية الجماعة، وهوية الجماعة تؤثر على هوية الفرد ،وتكون الهوية عند الطرفين أكثر قوة وتماسكا في حالات التهديد الخارجي وإذا ما تشاطر الطرفان نفس البيئة الاجتماعية وبطبيعة الحال نفس الأرض. الهوية عند الفرد تشكل" التعبير الصادق عن ذاتية الإنسان النفسية المستقلة ، التي تميزه عما عداه من آخرين في نفس محيطه .وهي تتكون من خلال عمليات توحد وتطابق ومزج بين المسلمات الشخصية للفرد ، ومن يؤثرون فيه اجتماعيا ونفسيا. ثم تقوم التنشئة الاجتماعية بعملية ربط الهوية الفردية بالهوية الجماعية وتعزيز الشعور بالانتماء للجماعة داخل الفرد ، بالإضافة إلى تحقيق بنية دافعة بداخل الفرد وظيفتها قبول هذا الأخير وتكيفه مع النموذج السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد في المجتمع .وتتقوى هذه النزعة في المجتمع حين تتحول إلى حركات سياسية أو اجتماعية احتجاجية إما في مواجهة تهديد من هويات محلية متعارضة معها او في مواجهة تهديد من هويات أو ثقافات خارجية . كما أن الهوية تتحدد كثقافة في سياق العلاقات الإنسانية حين إدراك المسائل العالمية والوعي بتعقدها. وهذا ما نلمسه اليوم مثلا فيما يسمى بخطر العولمة الثقافية أو صراع الحضارات . لكن تكوين الهوية وتمايزها –إنتاجها-يحتاج إلى زمن طويل ، حيث يؤكد R.Stavenhagen ان الجماعة الإثنية تعد نتاجا للتاريخ وتقاوم من اجل الأرض أو طريقة الحياة . ومن ضمن المعالم المحددة للإثنية أو الهوية العرقية نذكر ( الخصوصيات الثقافية والدين والعرق والسلالة والاقتصاد والقومية والبيولوجيا ...)وهذه كلها بنيات ثقافية وبنيات للهوية تشكل معاني مشتركة للانتماء.
منذ بدايات القرن العشرين وتحديدا في خضم الحرب العالمية الأولى وتوابعها لم تثار قضية أزمة الدولة وتحديدا فيما يتعلق بأزمة ألهوية الوطنية كما هي مثارة اليوم في مناطق متعددة من العالم .وإذ كانت إثارتها بداية القرن العشرين أرتبط بالنقاط الأربعة عشر للرئيس الأمريكي ولسون فيما يخص بالشق المتعلق بحق الشعوب بتقرير مصيرها ،وكانت الشعوب المقصودة آنذاك هي الشعوب الخاضعة للدول المهزومة في الحرب وخصوصا الإمبراطورية العثمانية،فإن إثارتها اليوم ليس بعيدا عن الولايات المتحدة وليس بعيدا عن تفكك إمبراطوريات –المعسكر الاشتراكي سابقا- نتيجة نصر بلا حرب ،إلا أن أزمة الدولة ومسألة الهوية هذه المرة تمس أيضا دولا من العالم الثالث لم تفرح بنشوة الاستقلال الوطني،حبث تَشكلت غالبيتها نتيجة اتفاقات وتفاهمات الحرب العالمية الأولى ونتيجة سياسة تصفية الاستعمار في منتصف القرن الماضي.فالمشكلة اليوم ليس أزمة هويات داخل إمبراطورية بل أزمة هوية داخل الدولة الوطنية أو الدولة البسيطة والمجتمع الواحد ،سواء في دول المعسكر الاشتراكي سابقا أوفي دول إفريقية وعربية وإسلامية.
في الحالة العربية فإن تعرض الهوية العربية والإسلامية للخطر الخارجي ليس بالأمر الجديد ،فمنذ أن فكر الغرب بالتوجه شرقا في إطار سياسة الاستعمار والهيمنة وضع نصب عينية تحطيم وتذويب هوية شعوب المنطقة باعتبار الهوية عامل استنهاض وتوحيد للأمة ،وفي سعيه هذا لجأ لكل الوسائل كالتشكيك بتاريخ الأمة موظفا في ذلك علم الاستشراق وكوكبة من الاستشراقيين وإثارة النعرات الطائفية والعرقية ومحاولة استمالة شرائح وفئات لمشروعه الاستعماري على حساب إقصاء بقية مكونات الأمة الخ وكانت اتفاقات سايكس-بيكو 1916محطة ضمن هذا النهج .ولم يكن الفلسطينيون غائبين عن الاستهداف بل كانوا على راس المستهدَفين من خلال وعد بلفور 1917 وكانوا من نشطي مقاومة هذه الهجمة الاستعمارية ولكن ضمن الحركة القومية العربية وحركة التحرر العربية .
الخطر على الهوية والانتماء اليوم هو أكثر تهديدا ليس فقط نتيجة تمكن الدول الكبرى من وسائل تقنية وإعلامية واقتصادية وفرتها لها الثورة المعلوماتية ،بل أيضا نتيجة ضعف الثقافة الوطنية لشعوب المنطقة العربية وعدم تمكنها خلال النصف الثاني من القرن العشرين من تعزيز مكونات الهوية سواء الوطنية أو العربية أو الإسلامية على أسس صحيحة بل دخلت هذه الهويات من خلال تيارات وقوى حزبية ناطقة باسمها وموظفة لها في مواجهات أحيانا دامية ،القطرية في مواجهة القومية ،والقومية في مواجهة الماركسية ،والهوية الدينية في مواجهة الهويات السابقة مما اضعف كل هذه الهويات وأضعف الأمة كلها.
موضوع الهوية والثقافة إنما هذا مؤشر على وجود حالة من القلق العام الذي يتعدى حالة القلق اليومي للمواطن على أمر معيشته أو المستقبل السياسي للوطن ،القلق على الهوية يتعدى المصالح الشخصية والحزبية والطبقية ليشكل حالة عامة.الثقافات الوطنية في مختلف أرجاء العالم تعيش اليوم في ظل عالم يتعولم قسرا، حالة صراع ومزاحمة لإثبات الوجود وللحفاظ على الخصوصيات ، على الهوية والانتماء حيث عاشت أجيال بعد أجيال تعتبرها من المسلمات غير القابلة للنقاش. أن توجد جماعة بأكملها في حالة من الحيرة والخوف تجاه متغيرات تمس موضوع الهوية ، فهذا دليل على أن هناك مسببات لهذا الخوف وان هناك خطر حقيقي على الهوية ، لا شك أن كثيرا من الشعوب العربية تعيش أزمة هوية وهو ما يتجلى بمظاهر أزمة الدولة من حروب أهلية فعلية أو كامنة وحالة تنازع بين هويات وخصوصا ما بين القطري والقومي والإسلامي والعلماني ، إلا أن هذه ألازمة بالرغم من خطورتها وتهديدها للمرتكزات التقليدية للدولة الموروثة من الاستعمار أو من إيديولوجيات ما بعد الاستقلال إلا أنها لا ترق لدرجة اعتبارها أزمة تهدد وجود الوطن بالمطلق ،هي أزمة تعيد صياغة الدولة إن صح التعبير،وما تشهده العراق والسودان والجزائر نماذج لذلك.
2- تثاقف الهويات:إخصاب للهوية أم تهديد لها؟
حيث أن الهوية هي هوية جماعة أو مجتمع وحيث ان المجتمعات لا تعيش منعزلة عن بعضها البعض وخصوصا في ظل تحول العالم إلى مدينة كونية وليس مجرد قرية كونية ،بل هي تتبادل الخبرات والتجارب مع بعضها البعض تؤثر وتتأثر ٍسواء سادت علاقات حرب أم علاقات سلام ،إذن فالهوية غير محصنة من عوامل التغيير والتبديل ،وبالتالي فأن مفهوم الهوية عندما ننتقل به من التجريد النظري والمدرسي إلى الواقع نجد أنفسنا كما يقول تركي الحمد "ممزقين بين حالتين أو مستويين من أنماط الهوية ،إن صح التعبير،أحدهم:هوية نموذجية متعالية ومتسامية،بل ومقدسة في الذهن ،والآخر:هوية عملية،بل ومدنسة في الذهن رغم الممارسة ،ونحن بين الحالتين مذبذبون ". وعليه يعتبر الحمد بأن الهوية مفهوم ذهني قبل أن يكون وجودا محسوسا،وهذا المفهوم الذهني يقفز إلى الواقع وقت الأزمات والهزائم ،حيث تصبح آلية ووسيلة للدفاع عن الذات ولملمة الذات في مواجهة الآخر.
في كثير من الحالات يتداخل المفهوم العام للهوية مع الهوية العرقية ، فهذه الأخيرة تتميز بخصائص جسمانية او عرقية ، الدين ،اللغة أو في الأصل القومي ، أو في كل هذه الأشياء مجتمعة ، إلا أن قاموس العلوم الاجتماعية يعرف الجماعة او الهوية العرقية بالقول ( يطلق في غالب الأحيان على أي جماعة تختلف عن الجماعات الأخرى في واحدة أو عدد من عادات حياتها). أيضا يجب التأكيد على أن تميز جماعة بهوية لا يعني تطابق أفراد الجماعة في كل شيء وخصوصا بعد تجاوز المفاهيم العنصرية للهوية والقومية وانتشار قيم الديمقراطية التي تؤكد على التعددية . إن التماس الوحدة والتجانس والتماثل أبدا هو التماس لموات الوجود والتماس لخاصية التحجر والجمود وبالتالي تتناقض مع جوهر الديمقراطية. الهوية الحق هي تطابق الهوية مع الاختلاف كما يقول هيجل. وهذا التصور للهوية أخذ به احد المعاصرين وهو المفكر الفرنسي إيف ميشو الذي يرى بأن سر قوة الهويات المعاصرة يكمن في تميزها بالتغير وقبول التغيير والمرونة بحيث تصبح هويات ديناميكية .
لا شك أن التوجه العالمي نحو الديمقراطية هو توجه نحو الأخذ بالتعددية ليس فقط السياسية بل والثقافية أيضا وخصوصا في الدول متعددة الثقافات والأعراق، فلا ديمقراطية دون تعددية بالمفهوم الواسع للكلمة،ولكن ليس كل تعددية تنتمي لثقافة الديمقراطية وتعززها ،الديمقراطية تقوم على أساس التعددية بل والاختلاف في إطار الوحدة "وعلى ذلك فإذا كانت المبالغة في توطيد التعددية الثقافية على حساب الوحدة الثقافية تؤدي إلى تفسخ المجتمع وضياع هوية الثقافة الوطنية المتفردة،فإن المبالغة أو المغالاة في الدفاع عن الوحدة الثقافية برفض كل مصادر التنوع الثقافي تؤدي إلى انغلاق الفكر وتدهور القوى الخلاقة المبدعة وإلى العزلة الثقافية.... ،مما يؤدي إلى النكوص والتراجع والتدهور".
الهوية إذن بما هي ظاهرة اجتماعية ثقافية فهي ليست حالة ثابتة بالمطلق ،فثوابتها هي متغيرات في نفس الوقت ،هي ثوابت من حيث تمييزها جماعة عن أخرها ولكنها متغيرة ومتطورة بتغير وتطور الجماعة وطبيعة علاقاتها مع الجماعات الأخرى عبر التاريخ ،سواء كانت علاقات منتصر بمنهزم أو بالعكس .فالهوية : ليست أقنوما ثابتا وجاهزا نهائيا،كما قد يفهم أحيانا ،وإنما هي مشروع مفتوح متطور على المستقبل ،أي متشابك مع الواقع والتاريخ .وفضلا عن هذا فهي ليست أحادية البنية،أي لا تتشكل من عنصر واحد لها،هو العنصر الديني وحده أو الإثني القومي وحده ،أو اللغوي وحده ،أو الثقافي الوجداني والأخلاقي وحده أو المصلحي وحده ،أو الخبرة التراثية أو العملية وحدها.وإنما هي حصيلة تفاعل هذه العناصر جميعا" .
فإذا كان إعلاء راية الهوية ،وطنية كانت أم قومية أم دينية ،تفرضه الضرورات أحيانا،وهي ضرورات تعبر عن حالة دفاعية في مواجهة عدو خارجي ،إلا أن الحدود قد تزول ما بين الهوية كضرورة للدفاع عن الذات والهوية كضرورة للحشد والتعبئة لنبذ الآخر وإقصاءه أو الاعتداء عليه إن غابت ثقافة التسامح والإيمان بالتعددية ،"فإذا كان معاصرونا لا يحضون بالتشجيع على الاضطلاع بانتماءاتهم المتععدة ،واذا كانوا غير قادرين على التوفيق بين حاجاتهم للانتماء والانفتاح الصريح والخالي من العقد على الثقافات المختلفة،وإذا كانوا يشعرون بأنهم مرغمون على الاختيار بين الإلغاء الذاتي وإلغاء الآخر ،نكون في طريقنا نحو تشكيل جحافل من المسعورين الدمويين ،جحافل من الضالين". ويخلص معلوف للقول "بأن كل منا مؤتمن على ارثين:الأول عمودي يأتيه من أسلافه وتقاليد شعوبه وطائفته الدينية،والثاني أفقي يأتيه من عصره ومعاصريه.ويبدو لي أن الإرث الثاني هو أكثرهما حسما ويكتسب المزيد من الأهمية يوما بعد يوم.ومع ذلك لا تنعكس هذه الحقيقة على إدراكنا لأنفسنا ،فنحن لا ننتسب إلى ترثنا الأفقي بل إلى ارثنا الآخر".
واليوم تتفاقم أزمة الهوية في العالم الثالث كظاهرة يطلق عليها برتراند بادي ، أثننة العالم ،فالعالم يشهد اليوم حالة لا تخلو من تناقض ظاهري، فمن جانب تتعرض ثوابت الهوية للزعزعة ، ومن جهة أخرى تنبثق هويات كانت يُعتقد أنها تلاشت ،وهويات كانت كامنة وخصوصا في مجتمعات فقيرة وضعيفة وجدت في الهوية العرقية أو الدينية الجدار الأخير الذي يحفظ لها كينونتها ويحول دون اندثارها بعد انهيار الأيديولوجيا .اليوم "يجري إخراج الإنسان من يقينيته وذاتيته وكينونته ، وربطه إلى عصر الكونية الذي تذوب فيه كل الخصوصيات " . انقلبت إحدى أدوات العولمة ضدا على مسارها ، حيث شجعت هذه الأخيرة ، المجموعات الإثنية والدينية والقومية على لبس عباءة الديمقراطية . كما أصبح خطاب الهوية القومية يشكل شعارا أيديولوجيا تحتمي به الجماعات الاجتماعية المهمشة ،وهو الامر الذي دفع المفكر الفرنسي جان فرانسوا بيار إلى الأعتقاد بأن الهوية بمفهومها العام غير موجودة ،إنما الموجود مجموعة من استراتيجيات الهوية التي تحركها نخب فاعلة ومستفيدة ،ونعتقد ان هذا الراي لا يخلو من وجاهة بالنسبة لحركات قومية متعصبة أو فاشية او عسكرية تلبيس لباس الهوية وتحارب بسيفها ،كالنازيون في المانيا الهتلرية والصرب بعد إنهيار يوغسلافيا ....ولهذا فالهوية لا تصاغ بقوانين ولا تندثر بقوانين ولكنها كالكهرباء تتغلغل في حياة البشر وتكمن في روح القوانين وفي سلوك الناس وتفكيرهم ومشاعرهم وتستمر ما استمر الانتماء والارتباط بوطن خاص بالجماعة.
لا غرو أن التهديد الرئيس للهويات الثقافية في عالم اليوم يتأتى من العولمة الثقافية التي هي تعبير عن الهوية الثقافية للآخر –الثقافة الغربية المسيحية - التي تتوفر على عناصر القوة والتأثير بحيث تصبح الهويات الثقافية للمجتمعات الضعيفة في حالة خطر، إلا أنه ومهما بلغت قوة العولمة ، فليس بمقدورها تقديم نموذج ثقافي بديل يستطيع تهميش الثقافات المحلية وإفراغ الهويات الثقافية من محتواها او الحيلولة دون التصادم بينها وهذا ما أكد عليه شاهد من أهلها وهو هنتنغتون في كتابه صدام الحضارات ، تَشكُل ثقافة عالمية هو نوع من المحال لان البشر بطبيعتهم مختلفون والله خلقهم كذلك ولم يحدث في تاريخ البشرية أن توحد العالم ضمن هوية ،فلا الديانات السماوية نجحت في ذلك ولا الإمبراطوريات بقوتها نجحت في ذلك . قد تنجح العولمة الاقتصادية والعلمية او المعلوماتية لأنها ترتبط بالجوانب المادية من حياة الإنسان ، إلا أن البعد المتعلق بالهوية والثقافة أي بالجوانب المعنوية ،من لغة وعقيدة وتراث حضاري غير قابلة للتوحد وبالتالي ستبقى مسالة الهوية ملازمة لوجود الدول والمجتمعات.
وفي حالتنا العربية يعتبر تعدد الهويات وتداخلها أمرا يميز العرب عن غيرهم ، فمن هوية وطنية او قطرية إلى قومية إلى إسلامية إلى أممية . و إن كان التعدد أمر إيجابي إلا أن التربية الحزبية والثقافة السياسية لبعض الأحزاب العقائدية عملت على تشوهه الهوية والثقافة ، حيث غلبت الايدولوجيا على الهوية .فالأممية ألغت الوطنية والقومية ، والقوموية ألغت الوطنية ، والإسلاموية ألغت كل شيء حتى العلم الوطني والنشيد الوطني .إن أزمة الهوية في مجتمعاتنا مرتبطة بأزمة الدولة وأزمة الدولة مرتبط بأزمة الهوية وكلاهما يبررا شرعية طرح السؤال من نحن ؟.بالإضافة إلى ما سبق فأن الهوية العربية الإسلامية مشبعة بالأشخاص ،فتقديس الأشخاص والرموز أهم من تقديس الأرض والوطن ، وتاريخ هويتنا وثقافتنا هو تاريخ أشخاص زعماء وليس تاريخ منجزات أو تاريخ دولة ووطن.
الخاتمة
وهكذا وطوال قرن أو ينيف بقيت التساؤلات هي التساؤلات وبقي الواقع هو الواقع مع تغييرات وظهرية لم تمسح الجوهر كثيرا ،وتراكمت التحديات أمام الفكر المفكرون والعقل السياسي العربي ،وإن كان بعض المفكرين ما زالوا أمناء على فكرهم الثوري والوحدوي ويتطلعون لاستنهاضه مجددا ،إلا أن عصر العولمة خلق تحديات غير مسبوقة تجعل استحضار الفكر القومي الوحدوي والفكر الثوري بمفاهيمه القديمة يحتاج لنضال مضاعف ومتعدد الأشكال ،وليس الأمر مع الفكر الإسلامي بأقل صعوبة .
تشكل العولمة اليوم تحديا متعدد الأبعاد ،فما دمنا غير منتجين لها ولا فاعلين فيها إلا بأضيق الحدود،فما علينا إلا استنهاض الكامن أو المتبقي من إمكانياتنا الثقافية والاقتصادية لجعل وقع العولمة اقل خطرا علينا ولتوظيف العناصر الإيجابية فيها،ونعتقد أن العرب وعلى بالرغم من كل مظاهر السلبية البادية على أوضاعهم قادرون على الدخول عصر العولمة بثقة اكبر لو أعادوا إحياء المشاريع الوحدوية السياسية والاقتصادية ولكن على أسس جديدة وبرؤى جديدة، بإضفاء البعدين الديمقراطي والاقتصادي على هذه المشاريع.
الواقع الدولي الراهن والذي تشغل العولمة معظم تفاصيله السياسية والاقتصادية والثقافية ،هو مجرد لحظ عابرة في تاريخ تطور المجتمعات و سيرورة النظام الدولي ،وبالتالي فهو ليس قدرا محتوما أو نهاية التاريخ . لا شك أن الدول المهيمنة وخصوصا الولايات المتحدة وجدت في انهيار المعسكر الاشتراكية وما ترتب عليه من انكشاف أنظمة دول العالم الثالث وخصوصا منها ذات السياسات المعارضة للسياسة الأمريكية،فرصة تاريخية لصيرورة تطلعاتها الهيمنية واقعا تستطيع من خلاله تأمين مصالحها الاقتصادية راهنا وعلى المدى البعيد ومحاصرة البؤر التي تستنهض سياسات معادية لها – ما تسميها الولايات المتحدة بؤر الإرهاب- ،إلا أن الولايات المتحدة بحاجة إلى ورقة التوت التي تخفي هذه التطلعات الهيمنية وتحافظ على صورتها كملتزمة بالشرعية الدولية وبالقيم والأخلاق التي يرتضيها المجتمع الدولي ودول العالم الحر، وورقة التوت هنا هي العولمة.
لا غرو أن الإمكانيات الراهنة للمجتمعات العربية والإسلامية لا تسمح لها بمواجهة تيار العولمة الجارف ،ولكن يمكن استنهاض الهمم بحيث لا نسمح لهذا التيار بجرفنا أو أن نكون لقمة سائغة بفم المتربصين بنا،وهنا يأتي دور المثقفين الملتزمين بقضايا أمتهم لتنوير الرأي العام بحقيقة العولمة ، وإن كانت فئة من المثقفين العرب تعاملت مع العولمة بنظرة المستشرقين مما يجوز نعتهم بـ (المستشرقون العرب) وفئة أخرى تعاملت معها على خلفية نظرية المؤامرة ،فأن فئة ثالثة من المثقفين استطاعت أن توازن ما بين المقاربتين فتتجنب مغالاة الطرفين السابقين بالاعتراف بأن هناك ايجابيات يمكن الاستفادة منها وهناك مخاطر يجب التحذير منها،وهذا ما نتبناه وندعو إليه.
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذف